أبعَد من «عبوة» ملوَّثة!

أبعَد من «عبوة» ملوَّثة!

الكاتب: نزيه درويش | المصدر: المدن
23 تشرين الأول 2025

منذ أيام قليلة، ضجّ الرأي العام اللبناني ببيان صادر عن وزارة الصحة يتحدث عن اكتشاف بكتيريا ملوّثة في عبوات إحدى أبرز شركات المياه المعبأة في لبنان، ويأمر بسحب منتجاتها من الأسواق وإقفال المصنع في انتظار نتائج الفحوصات النهائية.

لم يحتج اللبنانيون إلى كثير من الوقت ليشعروا بالذعر، فالمياه التي يشربونها منذ سنوات وُصفت فجأة بأنها «ملوّثة»، وأنها قد تحمل «خطرًا على الصحة العامة». هكذا تحوّلت الشاشات إلى منصات للهلع، معطوفًا على بشاعة الانقسام الطائفي «التاريخي» للبنانيين. وتصدّرت القضية عناوين الأخبار بوصفها الفضيحة الأحدث في مسلسل «سلامة الغذاء» الذي لطالما تكرّر في لبنان، من لحوم فاسدة إلى طحين مسوَّس إلى ألبان ملوّثة، وصولًا إلى المياه المعبأة!

بعد أقلّ من 48 ساعة، سرّبت مصادر «غير رسمية» معلومات تشير إلى أن نتائج الفحوصات المخبرية الإضافية جاءت سلبية، وأن عبوات الشركة خالية من أي بكتيريا ضارّة. واكب ذلك تلعثُم وزير الصحة بالوكالة، الذي كان وقّع قرار المصادرة والإقفال، متنصّلًا من مسؤوليته ومُخفّفًا من وقع تسرّعه السابق، ومتبرّعًا بتبرئة الشركة حتى قبل صدور نتائج المختبرات النهائية!  

ولأن كل فضيحة في لبنان تفتح الباب على تأويلات، سرعان ما بدأ الكلام عن خلفيات خفية: علاقة مزعومة بين وزير الإنابة وشركة مياه منافسة، أو تواطؤ بعض موظفي وزارة الصحة مع مبتزّين حاولوا الضغط على الشركة ورفضت الانصياع لهم. هي كلها أقاويل لم تثبت، لكنها تعبّر عن مستوى الثقة المعدوم بين الناس ومؤسسات الدولة.فحين تغيب الشفافية، تملأ الشائعات الفراغ. فكيف إذا اتخذت القضية، المفروض أنها تقنية بحتة، وتحدث أحيانًا في أفضل المصانع، طابعًا طائفيًا تحريضيًا، على جاري عادة اللبنانيين المنقسمين حول كل شيء تقريبًا؟

غسلُ اليدَين بمياه معبأة

بعد حوالى الأسبوع جاءت المفاجأة «السعيدة» على لسان الوزير بالأصالة هذه المرّة: لا تهديد صحي، ولا مبرّر لإقفال المعمل، فقط بعض الملاحظات التقنية في مرحلة من مراحل الإنتاج في المعمل كافية لمعالجة بكتيريا وجدَت في عينة واحدة.

على الرغم من أهمية التراجع الرسمي وخطورته في آن، لم يصدر عن وزارتَي الصحة والزراعة أي بيان واضح يعترف بالخطأ، أو أقلّه يوضح للرأي العام ماذا حصل وكيف حصل، ومَن يتحمّل مسؤولية التشهير بشركة لبنانية مرموقة بهذه الطريقة، أو بالمختبرات التي أصدرت التقرير الأول. اكتفت الوزارة المعنية بالصمت، فيما بقيت صورة الشكّ عالقة في أذهان الناس، وسمعة الشركة وقد تلطّخت أمام المستهلكين والأسواق في لبنان والخارج، وكذلك الأمر بالنسبة للمختبر.

زاد من الريبة تخريجة وزير الصحة، وموافقة الشركة المعنية عليها. ما يعني اعترافها الضمني بوجود خلل ما ونسبة معينة من التلوث في عبواتها (وهو أمر متوقع لدى الشركات المماثلة من دون استثناء)، ويعني حصول اتفاق تواطؤ بين الشركة والوزارة للفلفة القضية وحصرها ببعض التوصيات في التعبئة، وتضييع «الشنكاش» بين مختبر وآخر وعينة وأخرى وعبوة وأخرى. 

سكوت الشركة عن مقاضاة الوزارة أو المسؤولين فيها عن إثارة الموضوع بهذا الشكل والتراجع عنه، وعن العطل والضرر الكبيرين اللذين أصابا سمعة الشركة في الصميم، بل ونَيل الوزير أوسمة تهنئة من رُعاة الشركة وهُم من خصومه السياسيين، لا يقُلّ ريبة عن فعل الوزارة والشكوك التي انطلقت والاتهامات التي تطايرت. فقد عطّل «إتفاق التراضي» المفترَض الحقيقة.

الفضيحة الكبرى هي أن مسألة بهذه الأهمية جرى التعامل معها بهذه الخفّة والابتذال. وزير الصحة بالوكالة، الذي وقّع من دون تدقيق بحسب زعمه، عاد إلى «محميته» بلا مساءلة. ووزير الصحة بفائض الأصالة لم يجد مذنبًا واحدًا يحاسبه في وزارته أو في المختبرات أو في الشركة أو في الثلاثة معًا. والشركة، إلى جانب الأخطاء المدوّية بحق نفسها في مؤتمرها الصحفي، لم تنزع شكًّا واحدًا من عقول زبائنها إلا عبر تحويل الأنظار إلى كل الجهات ما عدا الوجهة الأهم: مصنَعها وخط إنتاجها.

في بلدٍ يُفترض أنه يسعى إلى إعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، بدت الفضيحة أكبر من مجرد حادث إداري أو التباس مخبري. إنها صورة مكثَّفة عن الدولة المهشَّمة التي تُصدر قرارات مصيرية من دون تدقيق، ثم تتراجع بصمت من دون اعتذار، وتترك الناس في فوضى الشائعات والارتباك، واختيار الحقيقة التي تناسبهم!

غير أن الأخطر من كل ذلك، هو أن الفضيحة لم تؤدِّ إلى أي تدبير. كأنَّ شيئًا لم يكن. وكأنَّ الإضرار بسمعة شركة وطنية، والتلاعب بثقة الناس بمنتج حياتي كالمياه، لا يستحقّ أي محاسبة أو مساءلة.

فرصة أخرى مهدورة

في الواقع، لم تكن هذه القضية لتستحق كل هذا الاهتمام، لولا أنها شكّلت فرصة أخرى ضاعَت على السلطة السياسية. كان أمام رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة – اللذان لا يكفّان عن إطلاق الوعود بالإصلاح ومكافحة الفساد وإعادة بناء دولة المؤسسات – امتحان حقيقي لإثبات أن الأمر ليس مجرد شعارات. كان بإمكانهما، وللمرة الأولى منذ زمن طويل، أن يُظهرا الحزم والجدّية في مواجهة خطأ رسمي فاضح، عبر فتح تحقيق فوري، وتعليق مهام المسؤولين المعنيين، ومصارحة اللبنانيين بما جرى. ولمَ لا، دفع الوزيرين المعنييَن، أو من يثبت خطأه أو تورطه، إلى الاستقالة الفورية

الأمر الثاني هو أن كل اللبنانيين يعلمون أن وزارات الدولة وإداراتها أُغرقت منذ عقودٍ بطوابير من الموظفين المحسوبين على الأحزاب والطوائف، وأنّ كثيرين منهم دخلوا من أبواب الزبائنية لا من نوافذ الكفاءة. فتحوّلت معظم الإدارات العامة إلى مواقع حزبية، وعُطّل أي أمل بإصلاحها، لأن إقالة موظف أو محاسبة آخر تُواجَه فورًا بحسابات مذهبية أو حزبية أو حتى اجتماعية.وفي كل مرة حاول فيها مسؤول إصلاحي التلويح بإعادة هيكلة الإدارة أو تنظيفها من الفاسدين، وُوجِه بالرفض، بحجة «الاستقرار الوظيفي» و«حقوق الناس»، و«استهداف فئة أو طائفة أو منطقة»!

لكن مثل هذه الحادثة، التي تمسّ الصحة العامة والاقتصاد الوطني في آن واحد، كانت لتشكّل فرصة ذهبية نادرة لتطهير الإدارات من الداخل. وكانت لتنفَّذ من دون جلبة كبيرة، فمن سيعترض على إجراء تأديبي ذي طابع إصلاحي في هذه الحالة؟

لو بادر رئيسا الجمهورية والحكومة إلى اعتبار هذه الفضيحة مدخلًا لتصحيح البنية الإدارية، لكانا أحرزا مكاسبَ عدة: بدء استعادة ثقة الناس بالمؤسسات، وتفعيل أجهزة الرقابة والمساءلة المعطّلة منذ سنوات، إضافة إلى تطهير الإدارة من الفاسدين وغير الكفؤين، أو أقلّه شهر سيف المحاسبة عليهم. ولكن أيضًا استعادة الزخم الاصلاحي الكبير الذي جاءا تحت يافطته وبدآ يفقداه شيئًا فشيئًا.

كان بإمكانهما القول إنّ زمن الحماية الطائفية قد انتهى، وأن الموظف الذي يخطئ أو يتلاعب بمصير الناس سيُحاسَب مهما كان غطاؤه أو من يقف خلفه. لكن ما حصل هو العكس تمامًا. وهكذا، عادت المياه إلى مجاريها، ليس لأننا تأكّدنا أنّها نقية، بل لأنّ الدولة ما زالت عكرة.وهذا أخطر ما في القصة. ففي كل مرة تتعثّر فيها الدولة ولا تعترف، تموت فكرة الدولة نفسها قليلًا.

في دول تحترم نفسها

في دولٍ أوروبية كثيرة، لا تُترك قضايا مماثلة تمرّ بلا محاسبة. فحين تبيّن في ألمانيا عام 2010 أن بعض البَيض يحتوي على مواد ملوّثة، استقالت إيلزه أيغنر وزيرة الزراعة فورًا رغم أن وزارتها لم تكن المتسببة المباشرة، معتبرةً أن المسؤولية السياسية تفرض تحمّل المسؤولية.

وفي بريطانيا، قدّمت وزيرة الداخلية أمبر راد استقالتها عام 2018 بسبب خطأ إداري في ملفات الهجرة، قائلة: «تحمّلي للمسؤولية لا يعني أنني ارتكبت الجريمة، بل أنني فشلتُ في منعها».

في أندلسيا، أدى تسرّب نفايات صناعية إلى نهر محلي سنة 2015 إلى محاكمة وزير البيئة الإقليمي واستقالته فورًا، رغم أن التسرّب نجم عن خطأ فني من شركة متعاقدة مع الدولة.الاستقالة كانت شرطًا طبيعيًا لاستمرار التحقيق، وليست دليل إدانة، واعتُبرت آنذاك خطوة لحماية الثقة العامة لا النظام السياسي.

وفي 2022 عقب اكتشاف خلل في فحوصات جودة أحد منتجات الألبان الشهيرة في إيطاليا، تبيّن أن موظفين في هيئة الرقابة أغفلوا تحديث البيانات. المدير العام للهيئة استقال في اليوم نفسه، قائلًا إن «الخطأ ضربَ صورة المؤسسة التي يجب أن تكون بلا شبهة». التحقيق استمر، وخرجت الدولة بصورة نزيهة ومنضبطة.

في عام 2017، واجهت وزيرة الصحة الفرنسية أنييس بوزين انتقادات بعد خطأ إداري سمح بتوزيع دفعة من اللقاحات غير المطابقة للمعايير. ورغم أن الخطأ لم يثبت أنه تسبب بأذى صحي، فقد فتحت الوزارة تحقيقًا فوريًا، واعتذرت الوزيرة علنًا أمام البرلمان، ثم قدمت استقالتها مؤقتًا إلى أن ظهرت نتائج التحقيق. في النتيجة: أعيدت لاحقًا إلى منصب آخر بعد تبرئتها، لكن الثقة بالوزارة لم تُترَك للشك لحظة واحدة.

نستطيع إيراد مئات الحالات المماثلة عن استقالات وزراء ومدراء عامّين في أوروبا وغيرها بمجرد ارتكاب أخطاء إدارية أو صحية أقلّ خطورة مما يحصل عندنا، لأن الثقة العامة تُعَدّ أثمن من «الكرسي»، ولأن ثقافة الدولة هناك قائمة على مبدأ بسيط:مَن يتولّى المسؤولية يجب أن يكون أول مَن يُحاسَب عند الخطأ، لا أول مَن ينفد بجلده. ما أبعَدَنا عن هذه الثقافة!

توم باراك- القصر الجمهوري

بارّاك بموقفه الأخطر: وقف المبادرات والمواجهة واقعة

لقاء بري وعون (رئاسة الجمهورية)

في الكواليس : لا رفض للتفاوض وإنما نقاش حول الشكل والضمانات

صيدا.jpg

أحمد الأسير عاد إلى عبرا.. هل تخلّت عنه الثورة السورية؟

غارات على الجرمق (وسائل تواصل)

غارات إسرائيليّة عنيفة على منطقة الجرمق المحموديّة

اعلان

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث