
تنسيق وثيق بين الإدارة الأميركية ومصرف لبنان… فما الهدف؟
اتفاق مصرف لبنان مع شركة K2 Integrity الأميركية يدخل حيز التنفيذ وسط جدل سياسي وقانوني. الاتفاق يهدف إلى إخراج لبنان من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي عبر ملاحقة التدفقات النقدية غير المشروعة وضبط اقتصاد الكاش الذي يقدر بأكثر من 10 مليارات دولار. ينظر إلى الخطوة كجزء من الضغوط الأميركية لتجفيف تمويل “حزب الله”، وملاحقة شبكات الفساد السياسي التي راكمت مليارات من المال العام.
تبدو الولايات المتحدة الأميركية أكثر حزماً من أي وقت مضى في مقاربة الملفات اللبنانية المرتبطة وبخاصة تلك المرتبطة بـ”حزب الله”، إذ يبدو من خلال الضغوط المتواصلة لحصر السلاح بيد الدولة أن واشنطن لا تنظر إلى القضية من زاويتها العسكرية فحسب، بل تتعامل معها أيضاً من بوابة الاقتصاد، فقد برز اقتصاد “الكاش” في لبنان بعد الانهيار المالي كأحد أخطر التحديات، إذ يشكل اليوم ساحة موازية لتمويل شبكات التهريب وتبييض الأموال، ويرتبط مباشرة بالمنظومة الإقليمية التي تقودها إيران.
الاقتصاد النقدي في نظر واشنطن ينقسم إلى شقين متداخلين: الأول مرتبط بتمويل “حزب الله” عبر جمعية “القرض الحسن” والتجارات غير المشروعة من مخدرات وتهريب وسلاح، والثاني متصل بالمنظومة السياسية الحاكمة التي راكم بعض أركانها ثروات بمليارات الدولارات من خلال صفقات مشبوهة، فالسياسيون توزعوا الحصص في مشاريع الكهرباء واستيراد النفط والاتصالات والبنى التحتية، وابتدعوا أنظمة محاصصة سمحت لهم بتقاسم المال العام تحت تسميات شتى، مما جعل موارد الدولة تصب في خزائن أحزاب وزعامات محددة ضمن شبكة مصالح معقدة.
أسرار الفساد
من هنا، يظهر الإصرار الأميركي جلياً: واشنطن تريد أن يمتثل لبنان بصرامة للمعايير الدولية في النظام المصرفي والتحويلات المالية ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. الهدف واضح: منع لبنان من التحول إلى ثغرة تهدد استقرار النظام المالي العالمي. وفي ضوء هذه الضغوط برز تنسيق وثيق بين الإدارة الأميركية ومصرف لبنان، إذ تؤكد المعلومات أن مصرف لبنان متعاون تجاه كشف السرية عن الأموال المشبوهة التي مرت عبر القطاع المصرفي اللبناني، سواء كانت لشخصيات نافذة أو مؤسسات أو أفراد، بهدف كشف صندوق أسرار الفساد على مدى أكثر من 30 عاماً، مشيرة إلى أن البحث عن الفساد ستكون له تداعيات كبيرة على شخصيات قد يتم إدراجها على قوائم العقوبات الأميركية والغربية ومن ثم تتبع حركة تلك الأموال حول العالم.
هذا التعاون ترجم بتوقيع عقد مع K2 Integrity وهي شركة أميركية رائدة في مجال إدارة الأخطار والامتثال والتحقيقات المالية، والمتخصصة في ملاحقة التدفقات النقدية غير المشروعة ورصد عمليات غسل الأموال. مهمة الشركة لا تقتصر على تقديم المشورة الفنية، بل تشمل إعداد خطة شاملة تساعد لبنان على الخروج من اللائحة الرمادية لمجموعة العمل الماليFATF وإعادة بناء الثقة مع النظام المصرفي الدولي، على غرار ما نجحت به في دول أخرى.
الاتفاق لم يكن تفصيلاً تقنياً، بل جاء في سياق حملة دولية متصاعدة على لبنان، خصوصاً بعدما أدت الانهيارات المصرفية منذ عام 2019 إلى تضخم غير مسبوق في حجم الاقتصاد النقدي، الذي يقدر اليوم بأكثر من نصف التداولات المالية داخل البلاد، فإذا كان ملف السلاح يثير هواجس أمنية واستراتيجية، فإن ملف “الكاش” يثير هواجس مالية لا تقل خطورة، ويهدد بجر لبنان إلى عزلة اقتصادية كاملة إذا لم يضبط وفق المعايير الدولية.
الهدف المعلن من الاتفاق هو مكافحة توسع الاقتصاد غير الرسمي والأنشطة الاحتيالية وغير المشروعة، إضافة إلى وضع خطة عمل واضحة تساعد لبنان على الخروج من اللائحة الرمادية التي فرضتها مجموعة العمل المالي على نظامه المصرفي، فهذه اللائحة تضع أي دولة تحت مجهر المصارف الدولية، وتؤدي عملياً إلى عزلة خانقة في التعاملات والتحويلات الخارجية.
تصنيف الأموال
وفقاً للمعلومات، ستعمل الشركة على تصنيف الأموال المتداولة في السوق اللبنانية وفق ثلاث فئات رئيسة:
– الأموال الخضراء: وهي الأموال المخزنة في المنازل أو المتأتية من مصادر مشروعة نسبياً. الهدف هو تشجيع أصحابها على إيداعها في المصارف وفق قواعد صارمة ورقابة تقنية متقدمة تعتمد الذكاء الاصطناعي.
– الأموال الصفراء: وهي الأموال التي دخلت البلاد من دون توثيق كامل لمصادرها. هنا سيجري اعتماد آليات تسجيل دقيقة عبر المرافئ والمطارات والمعابر الحدودية، حيث يتم تفتيشها وفحصها بدقة قبل السماح بتداولها.
– الأموال الحمراء: وتشمل تلك المرتبطة مباشرة بتمويل “حزب الله”، أو بالتنظيمات الإرهابية وشبكات المخدرات والسلاح والتهريب. هذه الفئة ستخضع للملاحقة المشددة والمراقبة الميدانية، مع حظر انتقالها أو دخولها النظام المصرفي.
ومن ثم يبدو واضحاً أن الهدف المنشود هو عزل الأموال المشبوهة وتجفيف منابعها، وفي الوقت نفسه تشجيع إعادة الثقة بإيداع الأموال النظيفة داخل النظام المصرفي.
الحرب على اقتصاد الكاش
بالنسبة إلى واشنطن، القضية لا تتعلق فقط بسمعة مالية أو خروج من اللائحة الرمادية، بل هناك بعد استراتيجي أوسع: اقتصاد “الكاش” في لبنان بات أداة تمويل أساسية لـ”حزب الله”، عبر شبكات واسعة تشمل تجارة المخدرات وتهريب البضائع وتبييض الأموال واستخدام مؤسسات مثل جمعية “القرض الحسن” لإدخال الأموال إلى النظام المالي.
وزارة الخزانة الأميركية تتابع هذا الملف عبر فريقين متخصصين: الأول يتابع التفاوض اللبناني مع صندوق النقد الدولي، والثاني يركز حصراً على الاقتصاد النقدي غير النظامي، وعلى إغلاق منافذ تمويل الإرهاب. لذلك، بدا واضحاً أن واشنطن لن تسمح للبنان بالاستمرار في هذا المسار، وأنها قررت فرض معالجات جذرية عبر إدخال K2 Integrity كذراع رقابية واستشارية. والاتفاق لا يقتصر على مكافحة التمويل غير الشرعي المرتبط بـ”حزب الله”، فهو أيضاً يشكل مدخلاً لملاحقة شبكات الفساد السياسي التي استنزفت الدولة اللبنانية على مدى عقود، فالمليارات التي جرى تهريبها أو تبديدها خلال مراحل حكم متعاقبة لم تكن مجرد مخالفات عرضية، بل شكلت نظاماً قائماً بذاته، إذ أنشئت آليات قانونية ومالية أعطت لهذه الممارسات غطاء شرعياً.
شرعية الاتفاق
على رغم الطابع الدولي لهذا الاتفاق، فإن الداخل اللبناني لم يخل من الاعتراضات، فهيئة الشراء العام رأت أن الاتفاق المباشر مع K2 Integrity يخالف قانون الشراء العام، وأحالت العقد إلى النيابة العامة المالية للنظر في قانونيته. وهذا الاعتراض يسلط الضوء على التناقض المزمن في لبنان: بين الحاجة إلى إصلاحات عاجلة تفرضها الضغوط الدولية، والبيروقراطية المحلية التي تستخدم أحياناً كذريعة لتعطيل الإصلاحات. هنا يظهر السؤال: هل يستطيع لبنان الموازنة بين الشرعية الداخلية والضرورة الدولية؟ أم أن التسوية مع الأميركيين ستتغلب على كل الاعتراضات المحلية؟
إذا كان المجتمع الدولي يضغط لنزع سلاح “حزب الله” كشرط لسيادة الدولة، فإنه يضغط أيضاً لتفكيك البنية المالية التي يستند إليها هذا السلاح. بذلك، يتضح أن مستقبل لبنان لا يختصر بخيار الحرب أو السلم، بل أيضاً بخيار النقد النظيف أو “الكاش” الأسود.
ورأى الصحافي الاقتصادي عماد الشدياق أن خطوة مصرف لبنان بالتعاقد مع شركة K2 Integrity منذ أشهر تأتي في إطار المساعي الجدية لإخراج لبنان من اللائحة الرمادية الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، “إلا أن هذه الخطوة أثارت نقاشاً واسعاً في الداخل اللبناني، حيث اعتبر البعض أن المصرف المركزي تجاوز الأصول القانونية، إذ لم يمرر العقد عبر هيئة الشراء العام”، وشرح الشدياق “أن هذه الملاحظة القانونية صحيحة في المبدأ، فالقانون يفرض أن أي عقد أو شراء تقوم به مؤسسات الدولة يجب أن يخضع لإجراءات هيئة الشراء العام، لكن ما يتجاهله كثر هو أن التعاقد مع هذه الشركة كان إلى حد كبير مفروضاً على لبنان أميركياً، فالشركة تعد من الأبرز عالمياً في مجال التدقيق ومكافحة غسل الأموال، وصاحبها شغل منصباً رفيعاً في وزارة الخزانة الأميركية، إذ أشرف مباشرة على ملف العقوبات المتعلقة بـ’حزب الله‘، ومن ثم فإن اختيارها ليس مجرد خيار داخلي، بل يندرج ضمن استراتيجية دولية لمساعدة لبنان على مواجهة التحديات المرتبطة بشبكات مثل القرض الحسن ومكافحة الإرهاب المالي”. أضاف “مقاربة الملف لا يمكن أن تكون محصورة بزاوية قانونية أو مالية ضيقة كما تفعل هيئة الشراء العام، التي تنظر عادة إلى معيار السعر أو إمكان وجود بدائل أرخص، فالقضية هنا لا تتعلق بكلفة العقد، بل بقدرة الشركة على توفير الصدقية الدولية والخبرة العملية اللازمة للبنان في هذا الظرف الدقيق”، وكشف عن أن ما لا يعرفه كثر هو وجود اتفاق ضمني بين مصرف لبنان والمصارف والدولة اللبنانية: كل طرف يتعاقد مع شركة استشارية دولية تتولى التفاوض والتنسيق عنه، فبينما استعان مصرف لبنان بـK2 Integrity، لجأت الدولة اللبنانية مجدداً إلى شركة Lazard التي عملت معها سابقاً خلال حكومة الرئيس السابق للحكومة حسان دياب، في حين سعت جمعية المصارف إلى التعاقد مع شركة Ankura الأميركية، المتخصصة في إعادة هيكلة المصارف والإصلاحات المالية، والهدف من هذا التوزيع هو إشراك بيوت خبرة عالمية محايدة تتمتع بالثقة الدولية لوضع الخطوط العريضة لقانون الفجوة المالية، وتحديد كيفية توزيع الخسائر والمسؤوليات بين مختلف الأطراف.
حملات مشبوهة
في السياق قال مصدر مواكب في مصرف لبنان إن “’المركزي‘ دخل في اتفاق مع الشركة الأميركية، ولم يكن ملزماً الكشف عن هذا العقد، لكنه فضل أن يعلن عنه ببيان علني، كإشارة ورسالة إلى الداخل والخارج بأن مقاربة جديدة وجدية قد بدأت لإعادة لبنان إلى النظام المالي الدولي، لكن ما إن صدر الإعلان، حتى انهالت السهام على العقد: انطلقت أولاً من نواب يرفعون شعار الإصلاح ظاهراً، ثم لحقت بهم سريعاً شبكات المنتفعين من الاقتصاد النقدي، من صرافين غير مرخصين، وشركات تحويل أموال متفلتة من قواعد المصرف المركزي”، وتابع “على رغم أن مصرف لبنان أجاب عن استجوابات نيابية رسمية خلال 48 ساعة، ثم على أخرى لاحقة بالوتيرة نفسها، فإن الحملة لم تهدأ. لاحقاً، طلبت جهة حكومية، يرجح أنها وزارة المالية، رأياً من هيئة الشراء العام حول قانونية العقد، وأصدرت الهيئة تقريراً رأت فيه أن العقد مخالف للأصول التقليدية للشراء العام، لكن رأيها غير ملزم ولا يملك وزناً قانونياً حاسماً، فالخطوة الطبيعية التالية، إن أراد طرف معني، هي اللجوء إلى مجلس شورى الدولة، أعلى هيئة إدارية قضائية، للفصل في الموضوع”.
وأشار المصدر إلى أن “رافضي العقد والباحثين عن إلغائه بأي ثمن لجأوا إلى سلاح أشد: شكوى جزائية أمام النيابة العامة المالية بتهمة هدر المال العام، لكن التهمة خاوية في جوهرها: فلا أحد يعرف كلفة العقد، ولا أحد اطلع عليه، والمصرف يتمتع أصلاً باستقلالية مالية عن الدولة. فمن له حق تقرير كيف يصرف أمواله؟ مواطن غيور؟ أم سلطة متخصصة؟”. وختم المصدر قائلاً “القضية الجزائية لا أساس لها، والقضية الإدارية لم تبدأ بعد، لكن السيرك الإعلامي قائم على قدم وساق، والجوقة السياسية تواصل عزفها. في المقابل، المصرف المركزي يمضي في اتجاه معاكس: محاربة الاقتصاد النقدي، وكبحه، وفضحه، وإعادته إلى القنوات الشرعية، تماماً كما تصر الدولة على احتكار السلاح بيدها وحدها. في قلب هذه المعركة تكمن معادلة بسيطة: من يخاف من K2 Integrity لا يفعل ذلك لأنه يرفض الشفافية الشكلية، بل لأنه يعلم أن الشركة قادرة على رفع الغطاء عن اقتصاد الظل، إذ يحكم المال الأسود وتتقاطع المصالح بين التهريب والمخدرات والسلاح، لذلك فإن الصخب الإعلامي والسياسي ليس سوى ستار يحمي وجوه المنتفعين من أشعة الحقيقة”.
سياسات رياض سلامة
في المقابل قالت الصحافية جنى بركات إن التعاون بين مصرف لبنان وشركة K2 Integrity يعيدنا إلى الدوامة نفسها التي عاشها اللبنانيون في عهد رياض سلامة (حاكم مصرف لبنان السابق)، “فالشركة التي تعاقد معها الحاكم كريم سعيد، والمعنية بمكافحة غسل الأموال وتقديم بعض الاستشارات المالية، ليست مؤسسة سحرية. هذا الدور كان من الممكن أن تقوم به لجنة الرقابة على المصارف محلياً، بدلاً من استقدام عقد خارجي يثير كثيراً من علامات الاستفهام”، وأضافت “الإشكالية الأولى هي تضارب المصالح، فدانيال غليزر، رئيس مكتبK2 Integrity في واشنطن، هو في الوقت نفسه مستشار لأحد المصرفيين اللبنانيين، مما يضعنا أمام تساؤلات عن خلفيات القرار وما إذا كان هناك تداخل مصالح شخصية ومصرفية، أما الإشكالية الثانية فتتمثل في غياب المعايير الواضحة”، لافتاً إلى أن النائبة بولا يعقوبيان وعدداً من النواب وجهوا أسئلة مباشرة للحكومة ولمصرف لبنان حول الأسس التي اعتمدت لاختيار K2 Integrity لكن لم يصدر أي جواب مقنع حتى الآن. وتابعت “الإشكالية الثالثة والأخطر هي سياق القرار نفسه، فالمصرف المركزي ما زال يحجز أموال المودعين ويمارس كابيتال كونترول غير قانوني، وتحيط به شبهات مالية وقانونية جدية. ومع ذلك أقدم على خطوة بهذا الحجم من دون أن يشرح للرأي العام أو لمجلس النواب دوافعه أو تفاصيل الاتفاق”، وختمت بركات قائلة “إذا لم يكشف بوضوح عن معايير الاختيار والعلاقات المحتملة وتضارب المصالح، فإن العقد مع K2 Integrity سيكون نسخة مكررة من سياسات غامضة فقدت ثقة اللبنانيين سابقاً، بدلاً من أن يكون مدخلاً لإصلاح فعلي وإعادة الاعتبار للقطاع المالي”.
اقتصاد الظل
في السياق رأى المتخصص الاقتصادي المالي جاسم عجاقة “أن لبنان بات أمام مرحلة نهاية عصر الكاش”، كاشفاً عن أن الإدارة الأميركية لن تقبل بأي شكل أن يستمر ضخ الأموال النقدية المجهولة المصدر داخل القطاع المصرفي، ومن ثم على لبنان العمل على رصد الأخطار وفرز التدفقات واعتماد فلترة منهجية تمنع المال غير المشروع من التسرب إلى النظام المالي. وأضاف “قرار الحاكم الأخير في التعميم 170 جوهري، إذ يشكل توجيهاً مباشراً وواضحاً للمصارف بعدم التعامل مع جمعية القرض الحسن أو أي مؤسسات مالية غير مرخصة، ومع الصرافين غير المرخصين. هذه المرة ليست رسالة رمزية، بل قوة تطبيقية تقفل واحدة من كبرى بوابات الاقتصاد الموازي”، وشدد عجاقة على أن الخروج من اللائحة الرمادية يحتاج إلى عمل كبير، “أما ما يحصل الآن فضروري كي لا ينزلق لبنان إلى اللائحة السوداء، فالفجوة ليست فقط مصرفية، هي فجوة دولة. والمصرف المركزي يسد نقص إجراءات حكومية غائبة أو متأخرة”، ولفت عجاقة إلى أن “السوق اللبنانية تعوم على ما لا يقل عن 10 مليارات دولار نقداً”، سائلاً إلى أين ستذهب هذه الكتلة حين تغلق المنافذ غير الشرعية؟ “الجواب ليس ببساطة إلى المصارف، لن يسمح بإدخالها عشوائياً، لذلك ستظهر محاولات لإعادة تموضع هذا الكاش عبر الاستيراد المفرط أو قنوات التفافية، وهنا وظيفة المنظومة الرقابية الجديدة التي ستعتمدها K2 integrity لتقليص هامش المناورة وتحويل النقد النظيف فقط نحو القنوات الشرعية”.
وتابع أن “المطلوب إجراءات دولة تكمل ما يقوم به المصرف: سقف صارم للمدفوعات النقدية (مثلاً 500 – 1000 دولار كحد أقصى للعملية)، وما فوقه يدفع بوسيلة مصرفية. هذا وحده يسحب الأوكسجين من اقتصاد الظل. بالتوازي لا بد من إصلاح ضريبي يوقف مهزلة الجباية بالكاش ويعتمد ضريبة عادلة تصاعدية مع جهاز تحصيلي رقمي”، وحذر من أن “الثقة لا تبنى من دون ضمانات للمودعين. على صعيد السياسة النقدية، تستطيع الحاكمية فرض آلية تلزم المصارف وضع تغطية 100 في المئة لدى المصارف المراسلة مقابل كل دولار مودع، فتكون الضمانة بالخارج في المرحلة الانتقالية. وعلى صعيد الحكومة، المطلوب تعهد صريح بعدم المس بودائع الناس”، وأضاف عجاقة “من الخطأ وعد الناس بأن القطاع المصرفي قادر على رد كل الودائع دفعة واحدة، هذا وهم، لكن من الصواب التأكيد أن المكان الطبيعي للمال هو المصارف، ومع كابيتال كونترول ذكي وضمان تدفقات الفريش، يمكن حل أزمة الوصول إلى الأموال تدريجاً (مدارس، طبابة، سلع أساس)، واستعادة قابلية الاستخدام بدل الدوران في حلقة الكاش”.
إصلاح جدي
وختم قائلاً “المجتمع الدولي يشترط مسارين متوازيين لأي إصلاح جدي: حصرية السلاح بيد الدولة وتفكيك الترسانة المالية التي تغذي اقتصاد الظل، وقد يرفض البعض ربط الملفات، لكن هذه هي وقائع اللعبة: إن لم تحسم جبهة الكاش، فالمعابر إلى اللائحة السوداء مشرعة، ومعها خطر الخنق المالي الشامل، لذلك من الطبيعي أن تهاجم هذه المقاربة، لأن K2 Integrity ستعري اقتصاد الظل وتقطع سلاسل التهريب والتبييض، لكن انتهاء عصر الكاش مسألة وقت وسرعة تنفيذ لا أكثر”، وخلص إلى أن برنامج الحد من “الكاش” يبدو بسيطاً في عناوينه، لكنه صعب في تطبيقه من دون قرار سياسي حازم، وهو يقوم على سقوف للمدفوعات النقدية وإلزامية الوسائل المصرفية، ورقمنة الجباية ومنع التحصيل نقداً، وتدقيق مسبق بالتدفقات K2 Integrity مع تصنيف أخضر وأصفر وأحمر، وضمان “فريش” خارجي مرحلي يبني الثقة، وكابيتال كونترول يحفظ الاستقرار ويمنع الهرب، وبذلك في رأيه “يصبح التعاقد مع K2 Integrity والتعاميم الأخيرة عمودي خيمة لمعركة خنق اقتصاد الكاش وإعادة إدخال لبنان إلى النظام المالي العالمي. من دونهما، نخاطر بالسقوط في العتمة المالية، ومعهما نفتح نافذة جدية للخروج من الرمادية، شرط أن تنجز الدولة ما عليها، وإلا بقيت الأبواب نصف مفتوحة ونصف موصدة”.