
بين اغتيال الشيخ بشير والسيِّد حسن
في 14 أيلول 1982 اغتيل رئيس الجمهورية المنتخب الشيخ بشير الجميِّل قائد “القوات اللبنانية”. وفي 27 أيلول 2024 اغتيل أمين عام “حزب الله” السيِّد حسن نصرالله مرشد الجمهورية غير المنتخب. في تشييع بشير بكى محبّوه ومريدوه والذين تأمّلوا خيرًا بأن يكون انتخابه قيامةً للبنان وخلاصًا من الحرب. وفي تشييع نصرالله بكى محبّوه ومريدوه والذين تأمّلوا بأنّه منقذ الشيعة وقائد النصر في الحرب الفاصلة ضدّ إسرائيل. بشير كان حلم قيام الجمهورية ولكن على خط معاكس كان نصرالله يمثّل مشروعًا مغايرًا لتلك الجمهورية التي استشهد من أجلها بشير.
بين اغتيال بشير واغتيال السيد حسن مسافة 42 عامًا. مثّل بشير مشروع الدولة القوية وأثبت قبل اغتياله القدرة على إحداث التغيير واختراق المحظور وتحقيق الأهداف المرسومة. قائد المقاومة اللبنانية الذي قال يومها “إننا هوجمنا كمسيحيين ولكن قاتلنا كلبنانيين” أكّد بعد انتخابه أنّه رئيس لكل لبنان وأعطى أملًا بأنّه بالإمكان محو آثار الحرب وتجاوز كل الأحقاد من أجل أن تكون هناك دولة عادلة قادرة على رسم طريق المستقبل الجديد أمام الأجيال الآتية. كان أمام خيارات صعبة لم يتوانَ عن خوضها. هو الذي أعلن ثورته على الصيغة التي كان يتغنّى بها والده رئيس حزب “الكتائب” الشيخ بيار الجميِّل، عاد إلى هذه الصيغة في الطريق إلى انتخابه رئيسًا للجمهورية لاغيًا الخيار الآخر عن طريق تنفيذ انقلاب عسكري ينهي عهد الرئيس الياس سركيس ويوصله إلى قصر بعبدا.
بين بشير وعرفات
عندما فكر بشير الجميل ببدء السباق نحو القصر الجمهوري في عام 1980، وعندما جمع أركان عهده، كانت حظوظه في الرئاسة منعدمة. بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، بات المرشح الوحيد للرئاسة وصار الرئيس الأكيد.
على عكس ما يتم الترويج له لم يكن الاجتياح الإسرائيل من أجل معركة إيصال بشير إلى الرئاسة. كانت الرئاسة نتيجة لقرار إسرائيلي أكبر استفاد منه بشير. يروي الموفد الأميركي إلى لبنان، السفير فيليب حبيب، بعد حرب زحلة عام 1981، أنّ وزير الدفاع الإسرائيلي وقتها أرييل شارون، خلال اجتماع بينهما لتخفيف احتمالات الحرب مع سوريا، أدخله إلى غرفة جانبية وأطلعه على خريطة عسكرية وأبلغه أنّه يستعدّ لاجتياح لبنان وطلب منه إبلاغ إدارة الرئيس رونالد ريغن بالأمر.
بشير الجميل عرف مثل حبيب بالقرار الإسرائيلي. وعلى طريقته سارع إلى إبلاغ رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بالأمر عبر أحد مساعديه الأمنيين طالبًا التوافق على إنهاء الحرب في لبنان. ولكن ياسر عرفات لم يكن مقتنعًا بأنّ إسرائيل ستقوم باجتياح كبير وتحتلّ بيروت واعتبر أن بشير الجميل يناور ويحاول أن يخدعه من أجل تحقيق مكاسب. وعلى رغم أن عرفات وصلته معلومات مماثلة من مصادر أخرى من واشنطن، إلا أنّه بقي مقتنعًا بأن لا اجتياح إسرائيلي واسعًا.
الواقع أن الأمور ذهبت باتجاه ما حذر منه بشير. خرج ياسر عرفات من لبنان وصار بشير رئيسًا للجمهورية في 23 آب. ولكن الحذر لم يلغِ القدر.
الاغتيال السهل في الأشرفية
على عكس السيد حسن نصرالله ومقاومته الإسلامية، لم تكن تجربة بشير مع المقاومة اللبنانية طويلة. بين 1975 تاريخ بدء الحرب، و1982 تاريخ انتخابه واغتياله، لم تكن “القوات اللبنانية” قد اتخذت كل التدابير الأمنية التي يمكن أن تحمي بها بشير. ولم يكن الوعي الأمني في مستوى رفيع من الاحترافية. على رغم أن بشير كان مهدّدًا دائمًا بسبب توالي محاولات الاغتيال التي نفّذها عملاء داخل المناطق المحرّرة، ومن بينها محاولات لاغتيال والده الشيخ بيار والرئيس كميل شمعون، ولاغتياله هو شخصيًا، لم يَتَّخِذ التدابير المقفلة من أجل حمايته. في 23 شباط 1981 نجح عملاء لأمن حركة “فتح” في تفجير سيارة في الأشرفية بهدف اغتياله.
الصدفة وحدها أنقذته ولكن القدر لم يمنع استشهاد ابنته مايا مع اثنين من مرافقيه. على رغم تكرار محاولات اغتياله وتوقيف المتهمين بهذه العملية، لم يتجنّب بشير بعد انتخابه الكثير من سلوكه العبثي السابق لاغتياله، فتردّد على أماكن كان يتردّد إليها بانتظام قاتل. أبرز ما قام به على هذا الصعيد كتدابير احترازية كان توحيد أجهزة الأمن في “القوات اللبنانية” ووضعها تحت سلطة إيلي حبيقة. ولكن تجربة القوات في هذا المجال وخلال أعوام قليلة لم ترتقِ إلى مستوى الأجهزة الأمنية الفلسطينية الممسكة بكل تفاصيل اللعبة الأمنية. ذلك أن الأمن الفسطيني كان متفوِّقًا أكثر في هذا المجال خصوصًا أنّه كان يستنِد إلى دعم كبير من دول كثيرة أبرزها الاتحاد السوفياتي.
ضمن هذا الجو استطاع حبيب الشرتوني أن يبقى مقيمًا في قلب المبنى الذي كان يقيم فيه، فوق مقر قسم “كتائب” الأشرفية، وأن ينتقل بين بيروت الشرقية والغربية، وأن ينقل المتفجرات وجهاز التفجير، وأن يدخل مع حقائبه إلى المبنى وأن يخرج منه وأن ينفّذ العملية بنجاح.
تاريخ ينتهي ويبدأ تاريخ
لم يكن عمر بشير الجميل عند اغتياله إلّا 35 عامًا. عندما تولّى نصرالله الأمانة العامة ل”حزب الله” عام 1992، كان عمره 32 عامًا. تاريخ اغتيال بشير الجميل كان بداية انطلاق مشروع “حزب الله” في لبنان الذي سيحمل نصرالله إلى قيادته على مدى 32 عامًا قبل اغتياله في 27 أيلول 2024.
كان مشروع الحزب دائمًا على عكس مشروع بشير الجميل و”القوات اللبنانية”. وعلى عكس بشير لم يكن من الممكن أن ينتقل نصرالله من قيادة “حزب الله” إلى القصر الجمهوري، لا من خلال الصيغة والدستور، ولا من خلال الانقلاب على الدستور. ولم يكن هذا هو هدفه في الأساس ولا هدف “الحزب” الذي يؤمن بولاية الفقيه وبتبعيته للوليّ القائد في طهران، من الإمام الخميني إلى السيد علي خامنئي وكل من يأتي بعده. الجمهورية اللبنانية بالنسبة إلى نصرالله و”الحزب” لم تكن إلّا مجرد ساحة من ساحات المواجهة التي يقودها الوليّ الفقيه في طهران. بينما كان طرح بشير الجميل و”القوات اللبنانية” أن لا يبقى لبنان ساحة وأن يستقرّ كدولة وجمهورية وكيان.
مرشد الجمهورية وصانع الرؤساء
خاض نصرالله حروبًا كثيرة لكي يرسِّخ سيطرة “الحزب في لبنان”. ولأنّه لم يكن يسعى ولا كان يقدر أن يكون رئيسًا للجمهورية سعى لكي يكون مرشد الجمهورية وصانع الرؤساء منذ ما بعد اتفاق الطائف عام 1990. لم يمنع فقط انتخاب الرئيس الذي لا يريده، من الياس الهراوي إلى إميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، بل سعى أيضًا إلى التحكم بتشكيل السلطة والحكومات وبتوازنات مجالس النواب المتتالية بالتضامن والتكافل مع النظام السوري قبل عام 2005 ولوحده بعده.
ولكن أيضًا على رغم التجارب الأمنية الكبيرة التي خاضها، وعلى رغم التقدم الكبير الذي حقّقه في هذا المجال، وعلى رغم اتخاذ السيِّد حسن نصرالله منذ العام 2006 أقصى تدابير الحماية، إلّا أنّه لم يستطع أن يلغي ما يخبئه له القدر. كما تسلّل حبيب الشرتوني إلى النقطة التي استهدف بها الشيخ بشير، تسلّلت إسرائيل إلى النقطة التي حضّرت فيها لاغتيال نصرالله، ونجحت في التنفيذ.
في موكب تشييع الشيخ بشير الجميل سال الكثير من الدمع وتوالد الكثير من الأسئلة المحمَّلة بخيبات الأمل. ولكن بعد 43 عامًا على اغتياله، ما زالت “القوات اللبنانية” تحمل عبء القضية التي استشهد من أجلها وتستمر في النضال السياسي.
في موكب تشييع أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله، كما في لحظة اغتياله، سال الكثير من الدمع وتكسّرت أحلام كثيرة بناها على مدى أعوام، وطُرِح الكثير من الأسئلة المتعلّقة بمصير “الحزب” والمحمّلة أيضًا على خيبات الأمل.
“بشير حي فينا”. يستمرّ هذا الهتاف في كل المناسبات التي تحيي ذكرى بشير أو تتحدّث عنه. وتستمرّ في المقابل هتافات “لبَّيك يا نصرالله”. تغيّر الزمن الشيعي كثيرًا بين زمن موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين وكامل الأسعد، وبين زمن حسن نصرالله ونعيم قاسم والمفتي أحمد قبلان. إنه سباق أيضًا لم ينته بعد بين جمهورية بشير الجميل وجمهورية ولاية الفقيه والسيد حسن.