ذكرى بشير: قديسون وشياطين فوق سطح واحد

ذكرى بشير: قديسون وشياطين فوق سطح واحد

الكاتب: طوني عيسى | المصدر: الجمهورية
16 أيلول 2025

في هذه السنة، حملت ذكرى اغتيال بشير الجميل إحساساً مختلفاً. بدا أنّ الزمن الذي أدار دورته 43 عاماً، أتاح إنضاج حقائق بقيت دفينة في وجدان الفئات اللبنانية المتنازعة. ولم تظهر الذكرى هذه السنة مجرد استعادة لألم قديم، بل كانت مرآة ربما رأى فيها كثيرون أنفسهم، بل خطاياهم، وأدركوا أنّ الحقيقة ليست لوناً واحداً، وأنّ العدو ليس دائماً هو الآخر، بل يكمن في أعماق الذات أيضاً.

الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية التي حلّت فيها ذكرى بشير، هذه السنة، فيها شيء من الانقلاب. فما أفرزته حرب “طوفان الأقصى” في غزة، و”حرب المساندة” جنوباً، أحدث مفاعيل هائلة في الشرق الأوسط. والأبرز كان سقوط نظام الأسد في سوريا. وهذه التحولات الانقلابية أنهت تماماً توازنات القوة التي سادت منذ الثورة الإيرانية.

واضح أنّ “حزب الله” هو اليوم أكثر واقعية مما كان قبل الحرب، ولو أنّه يعلن بشراسة رفضه تسليم السلاح. فقد تنازل كثيراً: خسر رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والحكومة. وهو ليس راضياً عن القرارات التي تتخذها، لكنها باقية. وهو سيقاتل ليبقى له وزن فاعل في المجلس النيابي المقبل، لكن ذلك ليس مضموناً. وأما السلاح فيواجه 3 مصائر في آن معاً: بعضه يتلقّى ضربات التدمير الإسرائيلية، وبعضه يُسلّم إلى الجيش، والبعض الآخر قد يقبع في مستودعات لا يخرج منها أبداً. وفي الحالات الثلاث، دور السلاح معطّل.

هذا الستاتيكو السياسي الجديد، ظهرت مفاعيله في ذكرى بشير. فالدولة، ممثلة برئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، أعادت الاعتبار إلى الرئيس الشاب. وحتى الأمس القريب، كان أركان الحكم يتجنّبون تماماً ذكراه، وغالباً ما شاركوا فريق دمشق ـ “حزب الله” في تخوينه، لأنّه “وصل إلى الحكم بالدبابة الإسرائيلية”. لكن اللافت أيضاً هو الصمت الكامل من جانب الصف “المعادي” تقليدياً لبشير. ولا يعني ذلك طبعاً أنّ هذا الصف قد اقتنع بالرجل. لكن المؤكّد أنّ هذا الفريق بات أكثر واقعية و”تواضعاً”.

زلزال الحرب الإسرائيلية أعاد رسم معادلات الربح والخسارة، وشكّل مناسبة لمراجعة الحسابات، بما في ذلك استراتيجيات المواجهة مع إسرائيل. وسيكون حتمياً على “الحزب” أن يتحلّى بالبراغماتية ليبقى موجوداً في السياسة، إذا انتهى دوره العسكري. كما سيتحتّم عليه رسم أطر جديدة للتعاطي مع القوى والطوائف الأخرى في الداخل. وهو ما ظهرت ملامحه في ذكرى بشير.

كان بشير الجميل القائد المسيحي الملهِم. لكنه أيضاً كان صاحب شعار “لبنان 10452 كلم مربعاً”، وقد سقط شهيده. ويُقال: لو أراد بشير التفريط بالشعار والمتاجرة، كما فعل كثيرون ويفعلون، لكان اليوم واحداً من زعماء البلد الذين يعيش منهم كثيرون على العصبيات الطائفية وينعمون بمليارات الفساد. ومع أنّ بشير رفع الشعار الشهير “نحن قديسو هذا الشرق ونحن شياطينه”- والـ”نحن” هنا مسيحية- فإنّه في الواقع كان يريد لبنان للجميع، لا للمسيحيين وحدهم.

وأما في ما أراد بشير أن يحصل عليه من إسرائيل، فقد كان أفضل بكثير من اتفاق 27 تشرين الثاني 2024. وفي المناسبة، حتى اتفاق 17 أيار كان أفضل من اتفاق تشرين. والقراءة الهادئة للنصوص (إذا تمّ العثور على النصّ الحقيقي للاتفاق الأخير) وظروف التنفيذ- وهذا الأهم- كافية لإثبات ذلك.

الأرجح أنّ هناك تحولات صامتة في داخل “حزب الله” ستدفعه إلى مزيد من الواقعية. لقد بدأ فيه كثيرون يقتنعون بأنّ “قديسي” هذا البلد ليسوا فئة واحدة، وكذلك “شياطينه”. وفي الواقع، كل طائفة لبست قناع القديس في لحظة، وقناع الشيطان في أخرى. الجميع تورطوا وذاقوا المرارات: المسيحيون الذين حلموا بالدولة القوية، دفعوا ثمناً باهظاً من أرواح أبنائهم وأمنهم. والمسلمون السنّة الذين حلموا بلبنان العربي، وجدوا أنفسهم في خدمة مشاريع لا علاقة لهم بها ولا مصلحة فيها. والشيعة الذين ظنوا أنّهم يناضلون للخروج من حرمان تاريخي، سقطوا في فخ حروب الدمار والإفقار التي لا تنتهي. و​في كل حرب، كانت تُدفن أحلام الأجيال البريئة في مقبرة التعصب.

هذا التعاطي المرن مع ذكرى بشير، هل يعني أنّ جدار الكراهية بدأ يتهاوى في البلد؟ المبالغة لا تجوز. إنّها تحديداً لحظةٌ للحقيقة والحكمة. وربما بدأ يتكون إجماع بدائي لدى القوى المتنازعة على أنّ أحداً لا يملك الحقيقة المطلقة، وأنّ الجميع ارتكب الأخطاء. ويفترض أن يؤسس ذلك لمسار جديد، يضع حداً للمزايدات، ويفتح باب الحوار والقبول بالآخر. ولكن، لا شيء مضموناً في بلد تعصف به الرياح من كل جهات الإقليم على الفئات والجماعات، فتُحرِّضها وتُحرِّكها.