
بحثت عن أهلها… فوجدت الشارع حضنها الأخير من التبنّي إلى التشرّد… رنا : «ما زلت أبحث عن أهلي»
في زاويةٍ معزولة من إحدى حدائق بيروت، جلست شابة في السابعة والعشرين من عمرها، تحمل حقيبة صغيرة وترتشف قهوتها الباردة بصمتٍ ثقيل. على ملامحها تمتزج الطفولة بالخذلان، وفي عينيها تسكن قصة تصعب روايتها من دون أن ترتجف الكلمات.
اسمها المستعار رنا – لكنها، كما تقول في حديث خاص لـ «نداء الوطن»، لم تعرف يومًا معنى الاسم، ولا شعور الانتماء.
«أنا لا أنتمي لأحد… منذ أن كنت في الحادية عشرة وأنا أبحث عن نفسي».
من بيتٍ إلى بيت… ومن حضنٍ إلى جفاء
حين كانت رنا رضيعة لا تتجاوز الشهرين، تبنّاها زوجان ظنّا أنهما سيمنحانها حياةً آمنة.
كبرت في كنفهما، حتى بدأت الشكوك تراودها في سنّ الحادية عشرة. تقول لـ «نداء الوطن»: «كنت أشعر بشيء غريب… ملامحي لا تشبههم، تصرّفاتهم مختلفة، كنت ألاحظ أعمارهم الكبيرة، وأسأل نفسي: هل هما حقًا والداي؟».
بعد فترة قصيرة، عرفت الحقيقة المؤلمة: الزوجان اللذان ربّياها ليسا والديها البيولوجيين.
ومنذ تلك اللحظة، تقول، «بدأ الجدار بيننا يرتفع كل يوم أكثر».
حين علمت المرأة التي ربّتها أن رنا اكتشفت السر، انقلبت العلاقة إلى جفاءٍ وقسوةٍ وإهمالٍ متعمّد.
«بدأت تعاملني وكأنني غريبة عنها. صراخ دائم، توبيخ، حرمان من أبسط الحقوق. لم تعد تناديني بحنان، بل ببرودة جارحة كأنني عبء يجب التخلص منه».
الجوع الدائم والحرمان الطويل
لسنواتٍ طويلة، لم تعرف رنا طعامًا سوى المعكرونة والعدس والأرز، ثلاث وجباتٍ مكرّرة كانت طعامها اليومي الوحيد.
«كنت آكل الشيء نفسه يومًا بعد يوم. لا فواكه، لا لحم، لا شيء. أحيانًا أتناول المعكرونة الباردة من اليوم السابق فقط كي لا أجوع. كنت أرى الناس يأكلون الأطعمة المتنوعة، وأتمنى أن أتذوق طعمها مرة واحدة».
لم يكن الجوع وحده رفيقها، بل الفقر والحرمان من الكرامة الإنسانية.
«لم يكن عندي هاتف، لم يسمحوا لي بشرائه. ثيابي قديمة جدًا، كنت أغسلها كل يوم وأرتديها من جديد. حتى الاستحمام كان ممنوعًا أحيانًا، كانت تصرخ عليّ وتقول: «ليس الآن، لا داعي». كنت أعيش كأنني غير مرئية».
التعنيف… وجدران بلا دفء
لم تقتصر معاناتها على الإهمال، بل تعرّضت للتعنيف مرارًا على يد ابن عمّ المرأة التي ربّتها.
«كان يصرخ في وجهي ويهينني أمام الجميع. لم يكن أحد يدافع عني. كنت أبكي بصمت حتى لا يسمعني أحد، لأن البكاء كان يزعجهم أيضًا».
عاشت سنواتٍ من العزلة النفسية، بين جدرانٍ فقدت الدفء ومعنى الأمان.
وحين انفصل الأب عن الأم، زاد الانكسار، وغرقت الفتاة أكثر في دوامة الوحدة.
«بعد الانفصال، لم يعد لي مكان. الأم بقيت في القرية، وأنا معها. لكنني لم أكن ابنتها في نظرها، كنت عبئًا فقط».
الشارع مأوى… والليل صديق قاسٍ
قبل عام، قرّرت رنا مغادرة المنزل نهائيًا.
خرجت بلا مالٍ ولا مأوى، تنقلت بين بيوت صديقات، فنادق صغيرة، حدائق عامة وكنائس.
«يوم أنام في الشارع، يوم عند صديقة، ويوم في الكنيسة إن سمحوا لي. أحيانًا لا أجد مكانًا على الإطلاق، فأبقى في الحديقة حتى الفجر. كنت أكتب في دفتري فقط لأشعر أنني ما زلت موجودة».
تمرّ رنا اليوم بحالة نفسية صعبة. تقول إنها حاولت أكثر من مرة إنهاء حياتها، لكنها تتراجع في اللحظة الأخيرة.
«أشعر أنني تعبت من كل شيء. لكن كل مرة أسمع صوتًا داخليًا يقول لي: اصبري، ربما هناك من سيهتم، ربما الله سيرسل أحدًا».
جمعية «أبعاد» تتحرك… وبارقة أمل
بعد أن تواصلت «نداء الوطن» مع جمعية «أبعاد» وعرضت عليها حالة رنا، بادرت الجمعية فورًا، ومن دون أي تردد، إلى التواصل المباشر معها وتحديد موعد مقابلة عاجلة لتقييم وضعها الاجتماعي والنفسي.
وفي اتصال خاص مع الصحيفة، قالت ممثلة الجمعية: «قصتها مؤلمة للغاية. رنا تمثل آلاف الحالات الصامتة التي تحتاج إلى صوتٍ يوصل معاناتها. سنعمل على تأمين مأوى آمن لها، ودعمٍ نفسي واجتماعي شامل، تمهيدًا لإعادة دمجها في الحياة».
هذه المبادرة الإنسانية فتحت نافذة صغيرة في حياة رنا، لعلها تكون بداية خلاصها من سنوات الألم.
حين تمتدّ الأيدي… يولد الأمل
قصة رنا ليست رواية حزينة فقط، بل مرآة تعكس ضياع الإنسان حين يُحرم من الحبّ والدفء والكرامة.
هي اليوم بلا بيت، بلا عائلة، بلا عمل، لكنها ما زالت تملك ما هو أثمن من كل ذلك: إرادة البقاء وانتظار العدالة الإنسانية.
وبين الحديقة والكنيسة والليل الطويل، تبقى رنا تكتب في دفترها جملة واحدة تكرّرها كل مساء: «ربما غدًا… سيعرف أحد أنني ما زلت على قيد الحياة».
