
رسائل المصيلح الأربع
سيسرق الرئيس الأميركي دونالد ترامب كل الأضواء، حين سيعتلي منصة الكنيست ليلقي كلمته، ومن ثم سيترأس قمة شرم الشيخ، والمخّصصة لتثبيت خطته حول وقف الحرب في غزة. وهي الصورة الأحب على قلبه، صورة من «صَنَع» سلاماً لملف شائك وصعب، فشل في إيجاد حلول له جميع أسلافه. وهي صورة أراد إضفاء بعض البهرجة عليها، ربما كتعويض عن حجب جائزة نوبل للسلام عنه، وهو الذي جاهر لمرّات عدة بأحقيته
تنطلق اليوم المرحلة الأولى من خطة ترامب، مع إطلاق الأسرى والمعتقلين، بعدما تمّ تثبيت وقف إطلاق النار، واستتباع ذلك بانسحاب الجيش الإسرائيلي إلى المواقع المتفق عليها. لكن هذه المرحلة هي الوحيدة من بين ثلاث مراحل، والتي تمّ فيها الإتفاق على كل تفاصيلها بين إسرائيل وحركة «حماس». فبالنسبة إلى المرحلتين اللاحقتين، هنالك تفاهمات مبدئية على عناوينها، وهي تنتظر الإتفاق على تفاصيل تنفيذها. فالمرحلة الثانية تشمل نشر قوة دولية مهمّتها السهر على تحقيق الإستقرار، وتتولّى مراقبة الوضع الأمني، ونزع سلاح «حماس»، بالتوازي مع تقليص الوجود المباشر للجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة. أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فيتحقق معها الإنسحاب الكامل حتى الحدود المرسومة مسبقاً، على أن تنقل مسؤوليات الحكم والإدارة إلى هيئة دولية ولفترة إنتقالية.
وفي وقت أصبح معروفاً أنّ الضغوط الهائلة التي مارسها ترامب على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو هي التي أجبرت الأخير على السير بالإتفاق، فإنّ الشكوك تتصاعد حول نية نتنياهو ومعه حكومته اليمينية، لاستغلال الجوانب الغامضة من مشروع ترامب، للشغب مجدداً والسعي لنسف البنود بالتدرّج كما حصل سابقاً مع إتفاقات أوسلو. ومن الجوانب التي يكتنفها الغموض، تلك التي تتعلق بمواعيد الإنسحابات النهائية، ومساحة المنطقة العازلة داخل القطاع ومدتها، وموضوع تسليم أسلحة «حماس» (والتي تعني أيضاً هدم الأنفاق وهو التحدّي الأكبر)، والإدارة الحكومية لغزة.
ويعتقد نتنياهو أنّه يمسك بورقة قوة تضعه في موقع متقدّم دائماً، وهي ورقة إعادة إعمار غزة. فمن المفترض أن تشهد قمة شرم الشيخ اليوم تحديد طريقة تمويل مشروع إعادة الإعمار وتفاصيلها، والتي ستستفيد منها من دون أدنى شك الدورة الإقتصادية الإسرائيلية.
ما يعني أنّ خطة ترامب صحيح أنّها خطة سلام ولكنها جزئية، وتهدف أكثر لوقف إطلاق النار، ولكن من دون معالجة القضايا الجوهرية للمشكلة. لا بل أكثر، فإنّ كثيراً من المراقبين يعتقدون أنّ تحقيق وقف النار هو الجزء السهل من الخطة، إذ يبدو أنّ الطرفين وصلا إلى نقطة الإرهاق من الحرب. أما المراحل التالية فلا تحمل إجابات تفصيلية واضحة، ما يشجع على الإعتقاد بأنّ اليمين الإسرائيلي، والذي يريد ترحيل الفلسطينيين وليس سلاماً حقيقياً، سيبحث لاحقاً عن ثغرات وطرق تسمح له بإبقاء سيطرته العسكرية على غزة. أي أنّ ما يحصل الآن هو كسب للوقت، وبعدها التملّص. وفي هذا الإطار، يستذكر البعض إتفاقيتي أوسلو، على رغم من وجود فوارق جوهرية عن ظروف اليوم. لكن ما حصل يومها، أنّ إتفاقية أوسلو الأولى تمّ وضعها على مراحل، ما أدّى إلى إفسادها بسهولة. بينما تمّ وضع التنفيذ في الإتفاقية الثانية ضمن مرحلة واحدة، وهو السبب في نجاح تطبيقها. كما أنّ هنالك واقعة ثانية غير مشجعة، ولها علاقة بوقف إطلاق النار في غزة، والذي حصل في آخر ولاية جو بايدن. وهو انهار بعد 42 يوماً فقط. صحيحٌ أنّ من يشرف على الإتفاق اليوم هو ترامب الشرس وليس بايدن المتردّد، لكن مشاغل البيت الأبيض الدولية قد تجعل من الرقابة الأميركية على تنفيذ كل الإتفاق أقل تشدّداً.
إذاً، هو ليس السلام النهائي لأزمات الشرق الأوسط كما يدّعي ترامب، فالإتفاق لا يحلّ الجوهر الأساسي للمشكلة. فقد تتغيّر الأمزجة في المستقبل القريب، وينتقل إهتمام واشنطن إلى عناوين أخرى، كما يحصل دائماً عبر التاريخ. فالمعروف عن نتنياهو قدرته الفائقة على المناورة واللعب على التفاصيل والتملص من الإلتزامات. لذلك، فمن المتوقع أن لا ترحّب الحكومة الإسرائيلية بأي وجود أممي أو دولي داخل القطاع، لأنّ ذلك سيؤدي للحدّ من قدرة إسرائيل على حركتها الأمنية. لكن من الآن وحتى ذاك الوقت، فإنّ نتنياهو بات مكشوفاً أمام هجمات معارضيه وخصومه في الداخل، وهم كثر. ولا شك في أنّ نتنياهو الذي بدأ يسمع الإنتقادات العاصفة حول من عليه أن يتحمّل مسؤولية نجاح عملية «طوفان الأقصى»، يجول في خاطره مصير غولدا مائير بعد هزيمة حرب العام 1973، وكذلك أرييل شارون بعد فشله في تحقيق أهداف حرب لبنان عام 1982. ولكن مع الإشارة إلى أنّ خطورة «طوفان الأقصى» تبدو أكبر بكثير مما سبق. ما يعني أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية يدرك جيداً بأنّه أمام خيار من اثنين: إما الوقوف أمام قوس المحكمة واحتمال دخوله السجن وتدمير سمعته السياسية، أو الإندفاع إلى الأمام أكثر وعلى أساس أنّ إسرائيل لا تزال في حال الحرب، قبل العودة والإستدارة إلى غزة وعلى أمل إجهاض ما تبقّى من الإتفاق.
والأرجح أنّ حال الهدنة ستكون الغالبة خلال الأيام المقبلة. وإلّا فإنّ أي تحرّك حربي سيعتبره ترامب وكأنّه موجّهاً ضدّه، وهو الذي سيرعد صوته بأنّه صانع سلام، وهو يحمل عالياً غصن الزيتون.
وعلى رغم من أنّ إيران تُعتبر من أبرز الخاسرين في غزة، حيث أنّ الحل جعل تأثيرها يخرج من الساحة الفلسطينية لمصلحة دخول النفوذ التركي، وهو ما يجعل مشروعها الإقليمي، والمعروف بمحور المقاومة، من التاريخ. ذلك أنّ ساحة الإرتكاز الأساسية لهذا المشروع هي فلسطين. إلّا أنّها حرصت على توجيه الرسائل الإيجابية والمتعاونة بعد مواقف أولية جاءت معترضة. وجاءت دعوة ترامب لها إلى المشاركة في مؤتمر شرم الشيخ بمثابة تأكيد على إيجابيتها، وخضوعها للنتيجة التي حصلت. وجاء بعدها كلام وزير خارجيتها حول إبلاغ نتنياهو عبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنّ إسرائيل لن تُقدم على الحرب ضدّ إيران. هو إذاً إلتزام إسرائيلي بضمان روسي ومباركة أميركية من دون أدنى شك. لكن نتنياهو نفسه أشار إلى أنّ الحرب لم تنته، وأنّ هنالك جبهات أخرى. فمن قَصَد فعلاً؟
ما إن اكتملت شروط نجاح مبادرة ترامب، حتى نفّذت إسرائيل ضربة جوية نوعية في المصيلح في جنوب لبنان. وهذا الإعتداء الجوي شرّع الأسئلة حول «اليوم التالي» بعد غزة وفق ما يخطط له نتنياهو. والعدوان الجوي جاء مفعماً بالرسائل البليغة، والتي أراد نتنياهو توجيهها إلى لبنان. فالضربة الجوية جاءت من خلال المقاتلات الحربية وليس المسيّرات. والمقصود هنا إطلاق صواريخ كبيرة ذات قدرة تدميرية كبيرة وليس صواريخ صغيرة قدرتها التدميرية تكون عادة محدودة. وهنا تأتي الرسالة الأولى، بأنّ إسرائيل لن تكتفي بالنمط الحاصل حالياً، أي إغتيالات يومية عبر المسيّرات، لا بل بأنّ اللغة التدميرية لا تزال واردة.
والرسالة الثانية تدعو إلى عدم تفسير اتفاق وقف النار في غزة إيجاباً على لبنان. أو بعبارة أخرى، لا تنخدعوا بمعاهدة غزة. فظروف غزة مختلفة عن ظروف الجبهة اللبنانية. وكدليل على ذلك، ها أنّ أيدينا طليقة في لبنان.
أما الرسالة الثالثة، فهي أنّ إسرائيل ستعارض بالنار أي تفكير بإعادة إعمار الجنوب، طالما أنّ المعطيات الميدانية لا تزال على حالها. والمقصود هنا طبعاً سلاح «حزب الله».
والرسالة الرابعة كانت لرئيس مجلس النواب نبيه بري، وهي دعوة بالنار لإتمام بنود الاتفاق الذي تمّ عبر الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، وأدّى إلى وقف الأعمال الحربية، والمتعلق بالجسم العسكري لـ»حزب الله».
ولا حاجة للشرح بأنّ إدارة ترامب تتفق مع إسرائيل حول هذه العناوين الأربعة. أضف إلى ذلك، أنّ ترامب والذي يدرك جيداً مدى حراجة «صديقه» نتنياهو جراء السير في مبادرته، سيترك له هامش الحركة في لبنان، خصوصاً أنّها تلتقي مع المشروع الأميركي بإخراج إيران من لبنان.
قريباً سيصل السفير الأميركي الجديد ميشال عيسى إلى مركز عمله في لبنان، بعدما خضع لإحاطات كاملة حول الملف اللبناني. لكن ما لفت تلك الزيارات التي قام بها القائم بأعمال السفارة، وهو الذي يُعتبر الرقم اثنين في التراتبية، والتي شملت المسؤولين اللبنانيين الكبار. واللافت أنّ هذه الزيارات حصلت قبل فترة قصيرة من وصول السفير الجديد أي رئيسه كما هو مفترض. وهو ما طرح علامات استغراب. مع الإشارة إلى أنّ القائم بالأعمال كيث هانيغان كان عمل سابقاً كمساعد لنائب وزير الخارجية للشؤون الإدارية. أي أنّه جاء من موقع جيد وليس من أسفل السلم. وهنالك من يعتقد أنّ السفارة التي بدأت تمتلئ بكوادر من المستوى الرفيع والمميز، وهو ما كان غائباً عنها لفترة زمنية طويلة، سيكون نشاطها أكبر بكثير من السابق. فآخر سفير كان يحظى بهامش واسع وحركة سياسية ناشطة كان جيفري فيلتمان. أما آخر سفير كان له دور أمني وازن فكانت السفيرة إليزابيت ريتشارد، والتي أتت من عالم الأمن، وهي الآن تلقي محاضرات في كلية الدفاع. أما السفراء الباقون فكانت حركتهم مقيّدة والهامش المعطى لهم محدود.
ولكن ثمة انطباعاً بات يغلب على الدوائر الديبلوماسية المهتمة بالواقع اللبناني، وهو أنّ لبنان خسر أو يكاد «المومينتوم» الدولي الذي كان قائماً لمصلحته. فالزخم الدولي بات يتركّز على غزة وسوريا، وهنالك المفاوضات السرّية الدائرة بين واشنطن وطهران، ولو عبر قنوات وسيطة. وهو ما يجعل لبنان ساحة إغراء لنتنياهو لإنقاذ نفسه من المقصلة السياسية الداخلية. فمثلاً، تبدي واشنطن موافقتها لا بل حماستها لمطلب إسرائيل بتحقيق منطقة عازلة عند الحدود، ولكيلومتر واحد على الأقل. ولكن من يستطيع القبول بهذا الشرط في لبنان؟ ولذلك قد تتساهل واشنطن مع نتنياهو في تصعيده ضدّ لبنان، على رغم من الوعود التي يطلقها بعض مسؤوليها للمسؤولين اللبنانيين.
لكن، ثمة إشارتين تحتاجان إلى كثير من التمعن والتفسير، الأولى سعودية وجاءت من خلال زيارة وزير الخارجية السوري إلى لبنان. فهذه الزيارة حصلت بتشجيع سعودي، وهدفت للإشارة إلى أنّ التحرّك السعودي في اتجاه الملفات اللبنانية إنما حان وقته.
والإشارة الثانية، وهي وفق ما تسرّب من لقاء أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني مع قيادة «حزب الله»، بأنّه على الحزب التمسك جيداً بتحالفه مع الرئيس نبيه بري وعدم الخلاف معه في أي ظرف كان، والبدء بوضع آلية للعمل من ضمن هيكل الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وليس عبر مؤسسات رديفة من خارجها كما كان حاصلاً في السابق.
من المعروف عن لبنان تشابك الخيوط فيه، بحيث يصبح شبه مستحيل فصل الخيط الأبيض عن الأسود. ولا شك في أنّ التشابك الآن أصعب وأعقد، وسط التحولات الإقليمية الكبرى.