
لسوريا Silklink… ولنا في لبنان Starlink
في دمشق، اختاروا أن يحفروا تحت الأرض… في بيروت، اخترنا أن نرفع البصر إلى السماء.
هكذا يمكن تلخيص الفرق بين مشروع “سلك لينك” (وصلة الحرير) الذي وضعت خرائطه وزارة الاتصالات السورية ليعيد بناء العمود الفقري للإنترنت بألياف ضوئيّة ومسارات برية وبحرية، وبين رهان لبنان على الشركة الأميركية “ستارلينك” بوصفه “وجبة سريعة” من أجل إسعاف قطاعٍ يعاني.
“سيلك لينك” هو اسم المشروع الذي سيحوّل سوريا والأردن والسعودية إلى ممرّ لكابلات الإنترنت، بحيث تكون سوريا مدخلًا من أوروبا، والخليج هو مخرج إلى القارة الآسيوية. وإضافة إلى كون هذا سيزيد سرعة الإنترنت، فإنه يجعل شركات كبرى مثل “غوغل” توطن مخدماتها في سوريا، لتكون مقرًا لمراكز البيانات العالمية والحوسبة السحابية، وغيرها من الخدمات التي تحتاجها شركات الإنترنت الكبرى، بحيث يصبح استخدام الإنترنت في الداخل السوري يمرّ عبر مخدمات محلية، ما ينقل الخدمة إلى مكان أكثر سرعة.
إذا، “سلك لينك” ليس مشروع سرعات أعلى فحسب، وإنّما محاولة لوضع سوريا على خارطة عبور البيانات بين قارتين، فيما العمود الفقري فيها الأرض: شبكات ألياف بصرية تمتدّ بين المدن الكبرى، نقاط تحويل داخلية، ومخارج دولية. هذه هندسة تضع الاستثمار بالشبكة في باطن الأرض وعمق البحر، حيث تُصنع السِعات، يُخفّض زمن الاستجابة، وتُبنى المرونة عبر مسارات بديلة حين تقع الأعطال أو تتبدّل الظروف. وبقدر ما يبدو هذا المسار بطيئًا ومكلفًا في البداية، إلّا أن عوائده التراكمية تظهر في مكانين: كلفة الميغابايت تنخفض على المدى المتوسط، والاقتصاد الرقمي المحلّي يجد أساسًا يجذب مراكز بيانات، وحوسبةً سحابية، وشركات محتوى وتوزيع.
اللغة التي ترافق “سلك لينك” تعكس هذا المنطق: شراكات بين القطاعين العام والخاص، وتفكير في الربط الإقليمي، ومقاربة تعتبر الإنترنت بنية تحتية وطنية لا سلعة استهلاكية. حين يُبنى “طريق الدولة” للبيانات، يصبح أيّ حلّ آخر- حتى ذاك الخاص بالأقمار الصناعية – أقلّ جدوى وأكثر كلفة لأنه لا يعمل فوق أرضٍ صلبة وواضحة المعالم ووطنية.
صحيح أن في سوريا اليوم، ثمة مخاطر تنفيذية مثل التمويل في بيئة عقوبات، وحماية المسارات في بلد خرج للتوّ من الحرب، واحتمال تباطؤ الجداول. لكنّها مجازفات لخيارٍ يبني قيمة دائمة.
في المقابل، يتحرّك لبنان نحو “ستارلينك”، التي يهلّل لها الكثير من الناس اليوم. الفكرة مفهومة في بلدٍ أُهملت فيه الاستثمارات الأرضية وتراجعت جودة الشبكات وموثوقيتها. الإنترنت الفضائي يمنح “أوكسيجين” سريعًا لقطاعات حيويّة، فيُغطي مناطق نائية، ويؤمّن “خط نجاة” عند الانقطاعات الواسعة. هذا الخيار مفيد كاحتياط أو كجسر عبور، لكنّه لا يصلح ليكون أساسًا صلبًا للاستثمار في خدمة النت.
هنا تظهر المخاطر اللبنانية على ثلاثة محاور:
أولًا، المخاطر الهيكلية: حين يُستعاض عن بناء البنية بتركيب خدمة فوقها، يصبح الاقتصاد رهينة مورد خارجيّ لتدفّق البيانات، وتتكرّس عقلية “تأجير التقنية” بدل إنتاج القيمة المحلية.
ثانيًا، المخاطر التنظيمية والسيادية: أين تُخزَّن البيانات؟ ولمن الولاية القضائية؟ كيف تُحمى الخصوصية وتُفرض معايير الشفافية والتنافس العادل؟ الأسئلة مشروعة ما دامت الهيئة الناظمة للاتصالات جنينًا عمره أيّام.
ثالثًا، عدالة الوصول: إذا بقي التسعير مرتفعًا ويبدأ بالمؤسسات، فستتسع الفجوة الرقمية بين المقتدرين وبين ملايين المستخدمين المنزليين الفقراء، وحينها يتحوّل “الإنقاذ” إلى امتياز.
المقارنة إذًا ليست بين تقنية “أفضل” وأخرى “أسوأ”، بل بين أفقين زمنيين. حلّ الأقمار الصناعية يقدّم أثرًا فوريًا، لكنّه قصير النفس ما لم يُلحق ببرنامج وطني للألياف البصرية ومسارات دولية متعدّدة. حلّ الألياف أبطأ في القطاف، لكنّه حين يكتمل، يُحسّن كلّ ما فوقه: من الجيل الخامس إلى توصيل المحتوى، ومن التعليم والصحّة الرقمية إلى الصناعة الناشئة للبرمجيات والخدمات العابرة للحدود.
السؤال لأيّ بلد لا يملك ترف إضاعة السنوات: كيف نُزاوج بين الإنعاش والتأسيس؟ الإجابة ليست مستحيلة كما يصوّر البعض. فلنختر الطريق الثالث: لبنان يحتاج إلى “ستارلينك” كمكمّل وليس كبديل. خط نجاة أو نسخة احتياطية للمستشفيات والهيئات الأمنية والبنية الحرجة، ونفاذ مرحلي للمناطق الأشدّ صعوبة. لكنّ في الوقت نفسه يحتاج البلد كذلك إلى خطة مُلزِمة بتواريخ وأهداف قابلة للقياس من أجل نشر تقنية الألياف الضوئية الأرضية.
أما في سوريا، فإنّ استمرار العمل بمسار “سلك لينك”، يعني أنّها ستراكم رأسمالًا غير مرئيّ تحت الأرض. سيجعل كلّ خدمة رقمية فوقها أرخص وأسرع وأكثر استقرارًا. التحدّي في دمشق تنفيذيّ، ويتمثل في حماية المسارات، وجذب الشركاء رغم القيود، وكذلك الحفاظ على زخمٍ سياسي ومالي طويل النفس. لكن مكافأته، إن تحقّقت، ليست “سرعة إنترنت” فحسب، بل ميزة تنافسية ومنصّة اقتصاد رقميّ يمكن البناء عليها لسنوات.
في المحصّلة، ما يحتاجه لبنان ليس التراجع عن السماء، بل أن يعيد ترتيب الأولويّات على قاعدة: البُنية التحتية أولًا، والفضاء من أجل العون… وهكذا فقط يصبح “الحلّ السريع” جسرًا نحو مستقبلٍ مستدام، لا جسرًا معلّقًا في الهواء، وآيلًا للطيران عند أيّ أزمة أو خلاف.