
ما أوجه الشبه بين حافظ الأسد ونبيه بري؟
الفارق الأساس بين الرئيس حافظ الأسد من جهة، وإيران وأذرعها من جهة أخرى، أنّه أعطى الأميركيين دائما الانطباع باستعداده للسلام مع إسرائيل. وهذا الانطباع جعله محط اهتمام الولايات المتحدة، باعتبار أن السلام يشكل أولوية أميركية. وبالتالي، فإن دخوله في صلب دائرة الاهتمامات الأميركية منحه ورقة قوة، وهامش حركة، وغض نظر سياسيًا، تمثّل في أحد وجوهه بسيطرته على لبنان.
تكمن أهمية الأسد، أو خطورته، في أنه عرف كيف يحاكي العقل الأميركي ليتفادى غضب واشنطن، ويستفيد من قنوات التواصل المفتوحة معها لمواصلة مشروعه التوسعي وصيانة الأوراق التي يُمسك بها. وهذا دليل على براغماتيته، إذ كان من الصعب أن يشقّ طريقه للسيطرة على لبنان والإمساك بالورقة الفلسطينية من دون الجسور مع واشنطن والرياض، وبناء تحالف استراتيجي مع طهران بذريعة صراعه مع البعث العراقي.
ولم يكن حافظ الأسد في أي لحظة على استعداد لتوقيع سلام مع إسرائيل لثلاثة أسباب أساسية:
السبب الأول، ذو طبيعة أقلوية: فهو ينتمي إلى أقلية علوية تحكم سوريا، وأولويته كانت الحفاظ على الحكم. لذلك استخدم ورقة رفض التطبيع للمزايدة على الغالبية السنية. ولم يكن في وارد القيام بخطوة تُعطي خصومه السنة ورقة اتهام بالتنازل في قضية مبدئية.
السبب الثاني، ذو طبيعة عقائدية: فعلى الرغم من براغماتيته وانفتاحه على واشنطن، واعتماده شعار “الأرض مقابل السلام”، إلا أن نشأته وخلفيته العقائدية منعته من توقيع اتفاق مع إسرائيل، ولم يكن بهذا الوارد في أي لحظة.
السبب الثالث، ذو طبيعة سياسية: إذ إن توقيع السلام كان سيُفقده الأوراق التي يُمسك بها من موقعه الرافض للتطبيع، ويقلِّص دوره الإقليمي والسياسي، ويُزيد تحدياته الداخلية. لذلك استخدم عنوان السلام كأداة للمناورة السياسية وليس كهدف فعلي للوصول إلى السلام.
ومع ذلك كله، أوحى الأسد لواشنطن بانه على أتمّ الاستعداد لتوقيع السلام، وأن العراقيل تقنية لا عقائدية ولا سياسية، والغاية من ذلك إبقاء نفسه حاجة أساسية لواشنطن في ملف محوري بالنسبة إليها، ودور دمشق أساسي على هذا المستوى. وقد رحل من دون توقيع الاتفاق، وكان الخلاف على بضعة أمتار في مياه طبرية بمثابة حبل النجاة بالنسبة إليه.
أما الرئيس نبيه بري، فقد أوحى لواشنطن وعواصم القرار واللاعبين السياسيين بانه مختلف عن “حزب الله”: فهو شيعي لبناني خلافًا لتوجُّه الحزب الإيراني، وأن ولاية الفقيه ليست مرجعيته، ولم يذهب للقتال في سوريا، واختلف مع “الحزب” في تبني ترشيح العماد ميشال عون، وكان ضد الدخول في الحرب مع إسرائيل. وبالتالي، فإنه حاول ويحاول باستمرار الظهور بمظهر المغاير لـ “الحزب” في محطات عدة، والخلفية وراء هذا التمايز تكمن في الآتي:
1) لم يخرج الرئيس بري عن الترتيب المعمول به برعاية إيرانية وأسدية بأن الدور المسلّح هو من اختصاص “حزب الله”، وأن الدور السياسي له.
2) الفريق الأقوى تمثيليًا ضمن الثنائي هو “حزب الله”، ولو تطابقت مواقفهما يفقد بري دوره، باعتبار أن الحوار أو التواصل يتمّ مع الفريق الأقوى. وهذا لا يزعج “الحزب”، بل يخدمه، إذ من مصلحته عدم التعامل معهما كبلوك واحد، بل على قاعدة وجود فريق متشدِّد وآخر ليِّن.
3) نجح بري في إقناع معظم محاوريه بانه مختلف عن “حزب الله”، وبهذا الأسلوب تمكّن من إجهاض محاولات تطويق “الحزب” أو فرض تسويات تؤدي إلى قيام دولة فعلية.
4) التمايز الشكلي الذي أظهره عن “الحزب” جعل التفاوض معه مباشرة، وأبقاه داخل مربّع “الثنائي”. فيما غياب التمايز كان سيجعل التفاوض معهما من خلال رئيس الجمهورية أو الحكومة، فيفقد بري جسور التواصل مع عواصم القرار، ويؤدي إلى إضعاف تموضعهما وأهدافهما.
وقد ورث بري عن الأسد براغماتيته، فهو يوحي للجميع أنه يختلف مع “حزب الله”، ويُقنعهم بأنه لا يريد تظهير الخلاف تجنبًا لصدامات داخل القرى الشيعية وبين العائلات الشيعية. لكنه في الحقيقة لا يختلف عقائديًا عن “الحزب”، بل هو الأب الفعلي للشيعية السياسية الإيرانية ومهندسها، ومتشدِّد برفض تسليم السلاح بقدر تشدُّد “الحزب”، إن لم يكن أكثر، باعتبار أن هذا السلاح، بالنسبة لهما، يشكل مصدر تفوُّق سياسي داخلي، وضمانة لإمساك الشيعية السياسية بالقرار الوطني اللبناني.
وأكثر ما ينطبق على العلاقة بين بري و”حزب الله” مقولة الأسد الشهيرة عن لبنان وسوريا: “شعب واحد في دولتين”، فكلاهما شعب واحد وتوجه واحد وأهداف واحدة في حزبين.
وكما كان الرهان على توقيع الأسد اتفاق سلام رهانًا خاطئًا، فإن الرهان على ابتعاد بري عن خيارات “حزب الله” الاستراتيجية رهان خاسر. فما يجمعهما لا يفرِّقه إنسان، لأن مشروعهما الاستراتيجي واحد: تحكيم الشيعية السياسية بالقرار اللبناني، فيما التمايز بينهما لا يتجاوز حدود توزيع الأدوار المتفّق عليه بينهما بشكل مدروس ومتقن.