
رسالة ثقيلة في بريد الدّوحة: كيف نجت قيادة الحركة؟
لماذا اختار بنيامين نتنياهو استهداف قيادة حركة “حماس” في العاصمة القطريّة الدّوحة؟ وما هي الرّسائل السّياسيّة التي حملها العُدوان على قطر؟ وكيف نجت قيادة الحركة من الاستهداف؟
لا بُدّ من العودَة إلى تشرين الثّاني 2024، أي بعد شهرٍ من عمليّة “طوفان الأقصى”. حينذاك صرّحَ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو أنّه أعطى توجيهاتهِ لـ”الموساد” و”الشّاباك” بالإعداد لاغتيال قادة حركة “حماس” أينما وُجِدُوا. وذلكَ ضمنَ محاولته تحقيقَ واحدٍ من أهدافِهِ المُعلنة من الحرب على غزّة، وهو “القضاء على حركة حماس”.
بعد ذلكَ التّصريح بأسابيع قليلة، اغتيلَ نائب رئيس الحركة ومسؤول ملفّ الضّفّة الغربيّة فيها صالح العاروري في ضاحية بيروت الجنوبيّة. كانَ اغتيالُ العاروري صادماً نظراً للمُعادلة التي أعلنها الأمين العامّ الأسبق لـ”الحزب” الراحل السيّد حسن نصرالله الذي هدّدَ في أيلول 2023 بأنّ أيّ مسٍّ بمسؤول فلسطينيّ في لبنان سيلقى ردّاً مباشراً من “الحزبِ”.
لكنّ حقيقةَ ما حصلَ هو أنّ نتنياهو كانَ يكسر الحاجزَ المعنويّ أمام استهداف قادة حماس خارج قطاع غزّة. إذ كَرّت بعد اغتيال العاروري سُبحة استهداف قياديّي كتائب القسّام في لبنان. وكانت جميع الاغتيالات يُنفّذها الجيش الإسرائيليّ و”الشّاباك” بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ بعيداً عن العمليّات الأمنيّة، التي تصمتُ عنها إسرائيل ولا تترك دليلاً واضحاً إن كانت تقف خلفها.
لم تقف “الصّراحة” الإسرائيليّة في اغتيال قادة “حماس” خارج فلسطين عند حدود لبنان، وذلكَ بعد اغتيال قائد الحركة إسماعيل هنيّة في قلب العاصمة الإيرانيّة طهران قبل سنةٍ وشهرٍ من اليوم. وإن كانَ اغتيال العاروري لكسرِ حاجزِ استهداف قادة “حماس” في لبنان، فإنّ اغتيال هنيّة في قلبِ طهران كانَ للقول إنّ يدَ إسرائيل ستصل إلى قادة “حماس” بمعزلٍ عن الدّولة التي يقيمون فيها.
كيفَ نجت قيادة “حماس”؟
كانَ لا بُدّ من هذا السّردِ المُختَصَر للوصول إلى ما حصلَ في العاصمة القطريّة الدّوحة. هدفَت العمليّة الإسرائيليّة إلى محاولة ضربِ اجتماعٍ للوفد المفاوض برئاسة خليل الحيّة، الذي يُعدّ الرّئيس غير المُعلن لـ”حماس”. وكانَ الاجتماع يضمّ أبرز قياديّي الحركة مثل رئيسها الأسبق خالد مشعل وموسى أبو مرزوق وزاهر جبّارين (الذي يتولّى ملفّ الضّفّة الغربيّة خلفاً للعاروري)، وغيرهم.
بِحسب معلومات “أساس” تلقّت قيادة “حماس” تحذيرات، بعد استهداف اجتماع حكومة الحوثيّين في صنعاء قبل أسبوعَيْن، من الاجتماع في مكانٍ واحدٍ، ومن أنّ عليهم أن يتّخذوا احتياطاتهم بمعزلٍ عن الدّولة التي يقيمون فيها، سواء كانت قطر أو تُركيا أو إيران.
دفعَت هذه النّصائح قيادة “حماس” لاتّخاذ إجراءاتٍ كانَت سبباً لنجاة الوفدِ بشكلٍ كامل. إذ تذكُرُ المصادر أنّ مسؤولي الحركة وضعوا هواتفهم النّقالة في إحدى “الفلل” واجتمعوا في “فيلا” أخرى. وذلكَ على اعتبار أنّ إسرائيل تُراقب حركة هواتفهم، تماماً كما حصلَ مع استهداف إسماعيل هنيّة في طهران، وصالح العاروري في بيروت. وهذا ما أدّى إلى نجاةِ الوفد من الاغتيال. إذ إنّ عدداً لا يُستهان بهِ من مسؤولي الحركة لا يزال يستعمل الهاتف النّقّال للتواصل مثل خليل الحيّة وخالد مشعل وموسى أبو مرزوق.
سارع البيت الأبيض إلى نفي معرفة واشنطن بنيّة استهداف قيادة “حماس”، لكنّ الواقع يقول إنّ نتنياهو لن يجرؤ على تنفيذ عمليّة مشابهة في دولة تبعدُ 1,800 كلم عن فلسطين وفيها قاعدة عسكرية أميركية، وتُعتبر ذات أهميّة استراتيجيّة سياسيّاً وعسكريّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً للولايات المُتّحدة من دون معرفة دونالد ترامب.
هذا يقودُنا إلى استنتاجِ أنّ طرحَ ترامب الأخير لوقف إطلاق النّار في غزّة كانَ الهدفُ منه جمعَ قيادة “حماس” في مكانٍ واحد. لكنّ فشلَ العمليّة دفعَ واشنطن إلى التّنصّل من المعرفة المُسبقة بالعمليّة، بدليل أنّ ترامب قال لأمير قطر الشّيخ تميم بن حمد في اتّصال بينهما إنّ هذه العمليّة قد تفتحُ آفاقاً جديدة للسّلام في المنطقة، ولو نجحَت العمليّة كان ترامب أوّل المُرحّبين بها، تماماً كما حصلَ بعد ساعات من بدءِ الهجوم الإسرائيليّ على إيران في حزيران الماضي.
تأتي هذه العمليّة في سياق “الخداع الاستراتيجيّ” الذي تُمارسه تل أبيب بالتّنسيق مع واشنطن كما حصلَ في اغتيال السيّد حسن نصرالله في 27 أيلول 2024 أثناء مفاوضات وقف إطلاق النّار على هامش الجمعيّة العامّة للأمم المُتّحدة في نيويورك، واغتيال إسماعيل هنيّة المُفوّض بالتّفاوض حينها، وأخيراً كما حصلَ مع إيران في حزيران الماضي أثناء جولات التّفاوض في ملفّ البرنامج النّوويّ وقبل 48 ساعة من جلسة مُفاوضات كانَت مُتّفقاً عليها بين واشنطن وطهران في سلطنة عُمان.
ما الجديد في استهداف الدّوحة؟
لكنّ الفارقَ بين استهداف قادة “حماس” في قطر وبين استهدافهم في لبنان أو إيران أو سوريا هو الأمر الذي لا بُدّ من التّوقّف عنده، وذلك للأسباب الآتية:
- تُعتبَرُ قطر واحدةً من الدّول القليلة التي بإمكانها لعب دور الوساطةِ بين إسرائيل و”حماس”، وتتولّى هذا الدّور بالتنسيق مع مصر منذ تشرين الأوّل 2023.
- ترتبطُ قطر بشراكةٍ استراتيجيّة مع الولايات المُتّحدة الأميركيّة، حتّى إنّها تُعتبرُ وسيطاً موثوقاً لدى دوائر القرار في واشنطن. إذ تولّت الوساطة في ملفّات مُعقّدة مثل الوساطة بين إدارة الرّئيس دونالد ترامب الأولى وحركة “طالبان”، التي أدّت إلى الاتّفاق بين الحركة والولايات المُتّحدة، وتلعبُ دوراً أساسيّاً في الوساطة بين واشنطن وطهران في الملفّ النّوويّ.
- تضمّ قطر قاعدة “العديد” التي تستضيف مقرّ قيادة المنطقة المركزيّة في الجيش الأميركيّ (CENTCOM)، بالإضافة إلى مقرّ القيادة المركزيّة للقوّات الجوّيّة الأميركيّة والسّرب 83 لقوّات سلاح الجوّ الملكيّ البريطانيّ.
- إنّها المرّة الأولى التي تستهدفُ فيها إسرائيل عاصمةً عربيّةً من دُول مجلس التّعاون الخليجيّ. وهذا من شأنهِ أن يُطلِقَ استنفاراً سياسيّاً خليجيّاً لكبحِ جماحِ نتنياهو، بخاصّةٍ أنّ الاستهداف جاءَ بعد لقاء وليّ العهدِ السّعوديّ الأمير مُحمّد بن سلمان ورئيس دولة الإمارات الشّيخ محمّد بن زايد في السّعوديّة. وكانَ أحد أبرز عناوين اللقاء الرّدّ على كلام نتنياهو عن إسرائيل الكُبرى. وتَبِعَ ذلكَ بيان مجلس تعاون دُول الخليج العربيّ، واجتماع وزراء الخارجيّة العرب في القاهرة.
ماذا أرادَ نتنياهو من العدوان على الدّوحة؟
- أن يُؤكّد هدفه المتمثّل باستمرار الحربِ حتّى القضاء على “حماس”. إذ لم يبقَ في غزّة من قياديّي الحركة إلّا قائد “لواء غزّة” عزّ الدّين الحدّاد على لائحة الاغتيالات الأساسيّة بعد مقتل يحيى ومحمّد السّنوار ومحمّد الضّيف ومروان عيسى وروحي مُشتهى وأحمد الغندور ورافع سلامة وغيرهم من قياديّي “حماس” و”القسّام” في القطاع.
- إظهار أن لا بُقعة جغرافيّة في الشّرق الأوسط مُحرّمة على إسرائيل. وهذا يأتي في سياق ما تحدّث عنه نتنياهو من إنشاء “إسرائيل الكُبرى” التي يحملُ معناها الأمنيّ والعسكريّ أكثر ممّا هو واقعيّ من النّاحيتين الجغرافيّة والدّيمغرافيّة.
- ضربُ المفاوضات في محاولة للاستمرار بتحقيق هدف احتلال قطاع غزّة وتهجير سكّانه من الشّمال والوسط إلى الجنوب، ولا سيما أنّ العدوان تزامن مع إطلاق عمليّة عسكريّة لاحتلال مدينة غزّة وسطَ القطاع.
- توجيه رسالة واضحة إلى القوى الإقليميّة، وتحديداً إيران وتُركيا، وبخاصّة أنّ العمليّة جاءَت بعد ساعات من استهداف إسرائيل لمخازن أسلحة وأنظمة دفاع جوّيّ تُركيّة كانت قد وصلَت إلى منطقة تدمر في ريف حمص، حيث كانت إيران تشغّل سابقاً في هذه المنطقة نفسها أنظمة الدّفاع الجوّي.
كثيرةٌ هي رسائل نتنياهو التي أرادَ أن يُرسِلها عبر “بريد الدّوحة”. لكنّ الثّابت الوحيد هو أنّه يُريدُ القول إنّ حدود “سايكس – بيكو” باتت من الماضي، وإنّ إسرائيل هي التي ترسم الحدود السّياسيّة والجغرافيّة الجديدة في المنطقة. لكنّ هذا لا يعني بالضّرورة أنّه سيُكتب له النّجاح، خصوصاً أنّه باتَ يُشكّل عبئاً على المنطقة برمّتها، وربّما فشل الاغتيال في الدّوحة سيرتدّ داخليّاً على نتنياهو، الذي أكّدَ مرّة جديدةً أنّه لا يأبه لأمر الرهائن الإسرائيليّين في غزّة، بقدرِ ما يريدُ أن يكونَ “ملكاً من ملوك إسرائيل”.