
ملف الـ PCR يهدد ديوان المحاسبة بتصدّع داخلي
ترددت داخل أروقة ديوان المحاسبة مؤخرًا أصداء تباينات قضائية، لفّت القرارات النهائية التي صدرت في قضية أموال فحوصات الـ PCR المحجوبة عن الخزينة العامة والجامعة اللبنانية منذ العام 2021. وكشفت هذه التباينات اختلافات جوهرية، وإن بالشكل، في قراءة النصوص القانونية التي سمحت للغرفة الرابعة في الديوان برئاسة القاضية نيللي أبي يونس، بإصدار قرارين نهائيين، انتهيا إلى تغريم وزيرَي صحة سابقَين وإدانة رئيسين حالي وسابق للجامعة اللبنانية، ومدير عام سابق للطيران المدني، بارتكابات ومخالفات قانونية ومالية مثبتة. قبل أن يهدد النقض المتأخّر للقرارين من قبل النائب العام في الديوان فوزي خميس أمام مجلس شورى الدولة، بنسف هذه الجهود ونتائجها من داخل البيت الواحد. وهذا ما عكس أزمة ثقة، تهدد انتظام عمل المؤسسات الرقابية وقدرتها على إنتاج أحكام حاسمة وموحّدة في قضايا مالية كبرى ترتبط مباشرة بحقوق الدولة وماليتها.
يأتي الانقسام في لحظة حساسة يفترض أن تكون فيها جبهة الهيئات الرقابية والقضائية موحّدة لحماية المال العام. والأخطر أنّها قد لا تتوقف عند ملف الـ PCR وحده، بل تنذر بالانسحاب على ملفات أخرى ما يضاعف من حجم المخاطر على نزاهة العمل الرقابي.
أحكام أنعشت الآمال باسترداد أموال الجامعة اللبنانية… ولكن
في شهر شباط من العام الجاري، صدر قراران عن الغرفة الرابعة في ديوان المحاسبة، أنعشا آمال الجامعة اللبنانية وطلابها باسترداد أموالهما من فحوصات الـ PCR التي حجبتها مخالفات مالية شابت الملف منذ عهد وزير الصحة الأسبق حمد الحسن مرورًا بالوزير فراس الأبيض. فالقراران اللذان أدانا الوزيرين وغرمهما بالحد الأقصى من العقوبة المنصوص عليها، إلى جانب إدانة كل من المدير العام للطيران المدني بالتكليف حينها فادي الحسن، ورئيسي الجامعة اللبنانية السابق فؤاد أيوب والحالي بسام بدران، مع وقف تنفيذ الغرامة بحق الثاني بسبب حسن النية، ثبّتا الانتهاكات والمخالفات المالية التي سادت خلال هذه المرحلة. فطلب القرار الأول الذي صدر بحق الموظفين في شهر كانون الأول من العام 2022 استرداد المبالغ الباقية في ذمة شركات الطيران وإدخالها كإيرادت في حسابات الدولة، مع حفظ حق الجامعة بحسب النسب التي نصت عليها الاتفاقيات، فيما أحيل القرار الثاني الذي صدر بحق الوزراء المعنيين في شهر كانون الثاني من العام 2024، إلى النيابة العامة التمييزية لاستكمال التحقيقات مع شركات الطيران والعمل على استرداد الأموال المتوجبة بحقها لمصلحة الدولة.
لم يكن صدور القرارين الموقتين منفصلًا عن مسار طويل من المذاكرات التي أجرتها الغرفة، انتهت في العام 2022 إلى صدور تقرير مفصّل، بيّن مكامن المخالفات في اتفاقيات أهدرت المال العام، إما بسبب مخالفتها للقوانين والأنظمة أو نتيجة لخلل في تطبيقها. وقد أحيل التقرير كما القرارات اللاحقة، سواء الموقتة أو النهائية إلى الأطراف المعنية. من بينها النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة، التي تلقت القرار النهائي للديوان مع الدفوعات المقدمة من قبل الوزراء والموظفين المتهمين في قرارين منفصلين: الأول، سطّر بحق الموظفين وأحيل إلى النيابة العامة بتاريخ 18 كانون الثاني من العام 2024، وأعيد إلى الغرفة الرابعة مجددًا في شهر نيسان، بينما الثاني المتعلق بالوزراء، أحيل إلى النيابة العامة بتاريخ 4 تموز من العام 2024 ولم تتلقاه الغرفة الرابعة مجددًا حتى 13 شباط 2025.
جمّد إذًا الملف في النيابة العامة وفقًا لما بينته الوقائع، متخطيًا مهلة العشرة أيام التي تحددها المادة 70 من تنظيم ديوان المحاسبة لإعادة القرارات مشفوعة بالمطالعات الخطية، على أن تبقى هذه المهل، مهل حثّ وليس مهل إسقاط، أي أن تجاوزها غير مؤثر على سلامة الإجراءات.
بين قانونية الإجراء وشبهة العرقلة
منذ أيار الماضي، تلقت الغرفة الرابعة صدمة النقض الذي قدمته النيابة العامة لدى الديوان أمام مجلس شورى الدولة. وعلى رغم قانونية هذا الإجراء المتاح “شرعًا” للنيابة العامة، ضجت أروقة الديوان بما أثاره من ريبة حول عرقلة مقصودة للمسار الذي سلكته الغرفة في استرداد أموال الدولة والجامعة اللبنانية من خلال ملفها القضائي، خصوصًا أن العقوبات المالية التي فرضت على الوزراء المعنيين وعلى الموظفين تبقى معنوية في ظل تدني قيمتها نتيجة لانهيار قيمة العملة اللبنانية. بينما الأساس، هو في ما أثبته القراران من مخالفات جسيمة، أساءت لخزينة الدولة اللبنانية وللجامعة اللبنانية، ولا تزال تلحق ضررًا معنويًا وماديًا بحق طلاب الجامعة، نتيجة لاستمرار حبس حقوق جامعتهم في جيوب شركات الطيران التي قبضت على أموال الـ PCR.
في تفاصيل النقض المقدم من النيابة العامة، علمت “نداء الوطن” أنه فتح على مصراعيه في مجلس شورى الدولة، وجرت متابعته بطلب استحضار سمح للغرفة الرابعة بالرد على ما ورد فيه، مع تضمين الرد كافة الإيضاحات والمستندات التفصيلية المتعلقة بالموضوع لاتخاذ الإجراءات المناسبة.
وبحسب المعطيات التي توصلت إليها “نداء الوطن”، يتمسك رد الغرفة الرابعة في الديوان بمضمون قرارها كما بشكله. وهو لا يكتفي بإظهار الدلائل التي تؤكد عدم استناد النقض إلى معطيات قانونية، وإنما يؤكد مشروعية تحرّك الغرفة استجابة مع ما أثير حول مخالفات خطيرة وهدر مالي كبير لم تعالجه النيابة العامة. وهذا ما يجعل النقض المقدم، وفقًا لقراءة قانونية، ضعيفًا ومتناقضًا مع الأصول القانونية ومع مقتضيات حماية الأموال العامة والمصلحة العليا التي شكلت الهدف الأساسي من صدور القرارين القضائيين.
حجج تنظيمية VS صلاحيات قانونية!
تعلل النيابة العامة نقضها أولًا، بأن الديوان أصدر قرارين في اليوم نفسه، الأول يتعلق برئيس الجامعة ومدير الطيران المدني، والثاني بالوزراء المعنيين حصرًا، بينما كان يفترض برأيها أن تصدر الأحكام بقرار واحد، تَبُت بموجبه هذه الغرفة بصحة الوقائع ووجودها، وتقدر المساهمة في ارتكابها وتحدد المسؤوليات، خصوصًا أن الملف واحد ويتناول مخالفات ناشئة عن التصرفات الثانوية والتعاقدات والوقائع والظروف ذاتها.
ولكن في المقابل لا نص قانونيًا يدعم النيابة العامة في التعليل الذي تقدمه، أو يمنع غرف الديوان من المنهجية التي اتبعتها الغرفة الرابعة. وإذا كانت هذه الغرفة ارتأت إصدار أحكامها بقرارين، فإن ذلك جاء متناغمًا مع مسار الملف منذ بدايته، حيث كانت الغرفة قد أصدرت اتهاماتها الموقتة في قرارين أيضًا. وقد استندت في ذلك إلى سوابق قضائية، ولم تعترض النيابة العامة عليها حينها. وهذا ما يحوّل ذريعة النيابة العامة، بحسب قراءة قانونية أيضًا، مجرد مسألة إجراءات تنظيمية، ويضعها في موقع عدم الثبات في نظرتها إلى الأمور.
في تبريرات النيابة العامة لنقض القرارين أيضًا، أنّ الغرفة الرابعة لم تُحِل إليها تقريرها الأول الصادر منذ 2022، لاستكمال التحقيق والادعاء وفق الأصول. وهو ما طرح السؤال حول صلاحية الغرف المختصة في الديوان بالتحرّك تلقائيًا في قضايا حساسة مثل ملف الـ PCR من دون ادعاء النيابة العامة. علمًا أنه وفقًا لما بيّنته فقرة التبليغات في تقرير الديوان المنشور أيضًا عبر موقعه، فإن الغرفة طلبت تبليغ التقرير إلى النيابة العامة، وهي تبلغته فعليًا بتاريخ 8 آذار من العام 2022. ولكنها حتى لو لم تفعل، تجد الغرفة الرابعة غطاءها القانوني بالمادة 68 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة، التي تخوّلها إثارة المخالفات “عفوًا” من دون حصر الأمر بالنيابة العامة، خصوصًا أن الغرفة الرابعة كانت قد فتحت الملف بالاستناد إلى كتابين رسميين صدرا عن وزيري المالية السابقين غازي وزني ويوسف الخليل، وتعاملت معهما كإخبارين إستدعيا تحركها مباشرة ولو لم يردها أي ادعاء من النيابة العامة.
ذرائع النيابة العامة وردود الغرفة الرابعة
ادعت النيابة العامة أن خرق مبدأ تحركها بأمر من النيابة “يؤدي إلى عرقلة سير العدالة بإصدار قرارات متناقضة”. إلا أن هذا الأمر يبدو مستبعدًا. إذ إن مسؤولية النيابة العامة لا تقضي بإصدار القرارات بل يمكنها الادعاء بمخالفات معينة أمام الغرفة المختصة أو حفظ المعاملة أو وضع مطالعتها قبل إصدار القرار النهائي، ولا يجوز لها بأي حال من الأحوال أن تصدر قرارًا، بل تبقى هذه الصلاحية لقضاة الحكم فقط.
ومن النقاط التي تضمنها نقض النيابة العامة أيضًا أنها كانت في إطار استكمال تحقيقاتها في القضية لتحديد المسؤوليات عن المخالفات التي يثبت ارتكابها، وهذا ما يكشف عن تناقض تام، خصوصًا أن المدعي العام كان قد صرح على إحدى المحطات التلفزيونية أنه حفظ القضية وأن مرتكبي المخالفات “كانوا حسني النية” وفقًا لما يبينه رد الغرفة على هذه الذريعة.
وإذا كانت النيابة العامة قد رأت أنّ الهيئة التي أصدرت التقرير الخاص سبق وأبدت رأيًا في القضية، ما يمنعها من النظر فيها لاحقًا، فإنه من المفيد الإشارة إلى أن التقرير الخاص أولًا تمحور حول الوقائع والتوصيات، ولم يصدر أي قرار نهائي، متمسكًا باحترام حق الدفاع. وبالتالي لم تتخذ الهيئة صفة الادعاء إلا عند إثارة المخالفات عفويًا، وهذا أجاز لها وفقًا لقراءة قانونية، التحول إلى هيئة حاكمة في القرار النهائي لاحقًا.
عن تقرير القاضي المقرر والغرامة القصوى
تذهب النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة في معرض النقض المقدَّم، إلى الادعاء بأن الإحالة الصادرة عن رئيس الغرفة الناظرة في الملف لدى النيابة العامة قد تضمنت الإشارة إلى تقرير القاضي المقرر، من دون أن يُصار إلى إرفاق هذا التقرير بالمستندات المحالة، ومن دون أن يظهر لها أي أثر فعلي بين أوراق الملف أو في المعاملة القائمة. هذا الطرح يوحي بأن ثمة خللًا إجرائيًا وقع على مستوى إحالة التقرير، بما قد يشكل إخلالًا بحقوق الدفاع. بينما يظهر رد الغرفة أن هناك تقرير للمستشار المقرر قد أحيل إلى النيابة العامة مع القرار المبرم بحق الوزراء. إذ إن المستشار المقرر وفقًا للمادتين 22 و68 من تنظيم ديوان المحاسبة، يمكنه أن يدرس المعاملة إمّا بنفسه أو بواسطة مراقب يعاونه في مهمته. وبالتالي، فإنّ إحالة تقرير المراقب الأول الملحق بالمستشار المقرر في هذا الملف، من دون أن يتضمّن أي إشارة إلى مخالفة لما ورد فيه، يُعتبر بمثابة تبنٍ من المستشار المقرر لمضمونه. ذلك أنّه لو أراد مخالفة التقرير لكان نظّم تقريرًا مغايرًا وأشار صراحةً إلى موقفه المخالف. وهذا ما يدحض مزاعم غياب التقرير أو عدم إرفاقه.
نقطة أخرى أثارتها النيابة العامة في نقضها تتعلق بإشارة القرارين إلى فرض الغرامة ضمن الحد الأقصى، من دون تحديد، وهي ما إذا كان المقصود الغرامة قبل التعديل أم بعده. علمًا أن هذا الحد الأقصى قد عدل بحيث ارتفعت الغرامة من سقف سابق تراوح بين 150 ألفًا ومليون وخمسماية ألف ليرة لبنانية، إلى سقف جديد يتراوح بين مليار ونصف وخمسة عشر مليار ليرة. بينما أوضحت مصادرة قانونية، أن قانون العقوبات اللبناني يتضمن مبدأ راسخًا ولا يثير أي التباس، وهو أنّ أي تعديل يطرأ على قانون العقوبات أو القوانين التي تنظم العقوبات يسري على الجرائم السابقة إذا كان أكثر مراعاةً للمدعى عليه. وبما أنّ الغرامة الجديدة أشدّ، فلا يمكن تطبيقها بأثر رجعي على المخالفات المرتكبة قبل نفاذها.
هل يضمن مجلس الشورى وحدة ديوان المحاسبة
تتحفظ الأوساط القضائية في الديوان عن الإدلاء بأي تعليق حول هذا الملف قبل صدور القرار النهائي عن مجلس شورى الدولة. وهذا ما يجمّد الملف مرحليًا بانتظار صدور القرار الذي يعتبر ملزمًا لجميع الأطراف، وحتى لو كان مسار النقض، سواء قبل أو رفض، لا يعفي النيابة العامة التمييزية من مسؤوليتها في التحرك لاسترداد أموال الدولة والجامعة اللبنانية المهدورة.
إلا أن الأخطر في انكشاف التباينات داخل الجسم الرقابي في ديوان المحاسبة، هو في ما يعززه من مخاوف استفحالها، إلى حد تعطيل دور الديوان في الرقابة المسبقة واللاحقة على مجمل الملفات التي توازي بدقتها ملف الـ PCR أو تتخطاها. وخصوصًا بعد ما شاب بعض الملفات من أداء مشابه بالنسبة لتطبيق بعض المواد القانونية، ومن بينها المادة 70 المتعلقة بمهل النظر بالقضايا وإصدار المطالعات فيها. وهذا ما يضع مجلس شورى الدولة أمام مسؤولية توضيح الآليات التي تضمن انسجام المواقف داخل الديوان، وتحديد صلاحيات كل جهة بدقة، مع احترام مبدأ الفصل بين التحقيق والقرار القضائي، ضمانًا لعدم تكرار اللغط الحاصل في أي قرارات قضائية مشابهة قد تصدر عن ديوان المحاسبة.