أرقام تكشف حجم الكارثة… فاتورة الحرب التي لم يخترها لبنان

أرقام تكشف حجم الكارثة… فاتورة الحرب التي لم يخترها لبنان

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
9 تشرين الأول 2025

مر عامان على حرب الإسناد التي خاضها “حزب الله” دعماً لغزة بعد “طوفان الأقصى”، فدفع لبنان فاتورة مزدوجة مادية وبشرية وسيادية. خلفت الحرب أكثر من 4 آلاف قتيل و17 ألف جريح، ونزوح 1.2 مليون شخص، وتدمير نحو 99 ألف وحدة سكنية. فيما بلغت الخسائر الاقتصادية 14 مليار دولار، شملت الزراعة والسياحة والتجارة والبنية التحتية.

مرّت سنتان على اندلاع ما عُرف بـ “حرب الإسناد” التي خاضها “حزب الله” دعماً لقطاع غزة بعد عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. سنتان تكبد خلالهما لبنان فاتورة مزدوجة: فاتورة مادية واقتصادية مدمرة، وفاتورة بشرية قاسية، وفاتورة سيادية أفقدته السيطرة على جزء من أراضيه وأجوائه.

فإلى جانب الدمار الهائل الذي أصاب البنية التحتية والمساكن وتهجير أكثر من مليون لبناني من قراهم الجنوبية، تكشّف تدريجاً أن لبنان خسر جزءاً من سيادته الفعلية. إذ باتت إسرائيل تتواجد في نقاط متقدمة داخل الأراضي اللبنانية، وتشرف من مواقع محددة على شريط حدودي يمتد من الناقورة غرباً حتى كفرشوبا شرقاً.

اليوم، وبعد عامين على اندلاع الحرب، لا تزال المناطق الحدودية مغلقة أمام المدنيين اللبنانيين. فالقوات الإسرائيلية تمنع سكان القرى الجنوبية من العودة إلى أراضيهم الأمامية، وحولت تلك المنطقة إلى حزام أمني فعلي أو منطقة عازلة تحت السيطرة الميدانية الإسرائيلية. وفي المقابل، فقد لبنان السيطرة الجوية الكاملة على مجاله، حيث يسيطر الطيران الحربي الإسرائيلي على الأجواء اللبنانية على مدار الساعة، ويقوم بطلعات استطلاعية مستمرة واستهدافات شبه يومية لأهداف تابعة لـ “حزب الله”.

هذه الوقائع، بحسب خبراء عسكريين ودبلوماسيين، تمثل خسارة سيادية ومعنوية كبيرة للبنان، لأن جزءاً من سيادته تراجع فعلياً منذ توقيع اتفاقية الهدنة التي أنهت العمليات الواسعة في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024. فالاتفاق تضمّن شروطاً ألزمت لبنان بترتيبات ميدانية جديدة تتيح لتل أبيب تنفيذ ضرباتها الجوية والبرية تحت بند “حرية الحركة”، وتموضعها داخل نقاط محددة على الأراضي اللبنانية.

وبينما لا تزال آثار الحرب مستمرة من تدمير القرى والطرق والجسور، إلى النزوح القسري، إلى انهيار الزراعة والسياحة والتجارة يجد لبنان نفسه اليوم أمام واقع جديد: بلد فقد جزءاً من سيادته، واقتصاد يترنّح تحت كلفة حرب لم يخترها، وجنوب مدمر تحول إلى منطقة منكوبة بين خطوط النار والسياسة.

الأثر الكلي: الأرقام صادمة

التقرير المشترك للبنك الدولي والأمم المتحدة الصادر في مارس (آذار) 2025 وضع صورة قاتمة، كاشفاً أن كلفة الحرب بلغت 14 مليار دولار، تتوزع إلى 6.8 مليار أضرار مباشرة و7.2 مليار خسائر اقتصادية غير مباشرة. وانكماش الناتج المحلي بنسبة 7.1 في المئة عام 2024 مقارنة بسيناريو “عدم الحرب”.

فيما خسائر الإسكان تبلغ 4.6 مليار دولار، الزراعة 1.1 مليار، التجارة والصناعة والسياحة 3.4 مليار، الصحة 338 مليوناً، التعليم: 215 مليوناً.

أما حاجات إعادة الإعمار فتبلغ 11 مليار دولار، منها 3-5 مليارات للقطاع العام، والباقي عبر استثمارات خاصة.

يُضاف إلى ذلك الأثر المالي المستمر المتمثل بارتفاع الدين العام، وتآكل الإيرادات، وتراجع تحويلات المغتربين بسبب انعدام الاستقرار.

الحرب التي لم تنتهِ

وعلى رغم وقف النار، ظل الجنوب اللبناني في مرمى النيران. التقارير الأممية الصادرة في سبتمبر (أيلول) 2025 أكدت أن إسرائيل نفذت آلاف الاستهدافات ما بعد الهدنة، بينها ضربات جوية وتوغلات محدودة وهدم منازل. ولا يزال أكثر من 80 ألف نازح عاجزين عن العودة بسبب الدمار والذخائر غير المنفجرة.

القطاع الزراعي بدوره لم يتعافَ، إذ تُقدَّر الخسائر الإضافية منذ الهدنة بأكثر من 200 مليون دولار بسبب فشل المواسم. كما توقفت أعمال البناء في عشرات القرى، وأُلغيت مشاريع استثمارية وسياحية بالكامل.

وتُظهر فاتورة جبهة الإسناد أن لبنان دفع ثمناً هائلاً لحربٍ لم تكن على أرضه وحدها. فما بين أكتوبر 2023 ونوفمبر 2024 سقط نحو 3645 قتيلاً، وفق الأرقام الرسمية، لكن الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين يقول إن هذا الرقم لا يشمل قتلى “حزب الله”، ومعهم يصل الرقم إلى نحو 8000 شخص. فيما عدد الجرحى يتخطى الـ 25 ألفاً.

الخسائر البشرية والنزوح

بعد الهدنة في نوفمبر الماضي، استمرت الخسائر البشرية، حيث تشير تقارير وزارة الصحة اللبنانية الى أنه بين تاريخ وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر 2024 وصولاً الى أيلول 2025 بلغ عدد قتلى الضربات الإسرائيلية 307 أشخاص، فيما تقول إسرائيل إن معظمهم مقاتلون وقياديون ولوجستيون في “حزب الله”.

إلى جانب الضحايا، تعرض النظام الصحي في مناطق النزاع الى شبه انهيار تام، حيث أُغلقت أو دُمرت 21 مستشفى ومركزاً صحياً في الجنوب، ما أدى إلى فقدان 40 في المئة من القدرة الاستشفائية في محافظة النبطية الجنوبية، فيما تعطلت دراسة نحو 500 ألف طالب خلال ذروة الحرب بسبب تدمير المدارس وانقطاع الطرق.

أما النزوح الداخلي فبلغ مستويات غير مسبوقة منذ حرب يوليو (تموز) 2006. مع اشتداد القصف بين أكتوبر 2023 وسبتمبر (أيلول) 2024، نزح أكثر من 1.2 مليون شخص من منازلهم. وأُجبرت 205 قرى وبلدات جنوبية على الإخلاء الكامل. ومع وقف إطلاق النار، عاد جزء كبير من النازحين، لكن نحو 100 ألف شخص ظلوا مشردين مطلع 2025، وتراجع الرقم إلى نحو 82 ألفاً في سبتمبر 2025.

وتعيش غالبية النازحين حالياً في مساكن مستأجرة في مدينتي صور وصيدا والعاصمة بيروت. ويدفع 70 في المئة من الأسر إيجارات شهرية، بينما تقيم 25 في المئة مع أقارب، وتعيش نسبة تقل عن ثلاثة في المئة في مراكز إيواء، وبذلك تحولت الإيجارات إلى عبء جديد في بلد يعاني أصلاً من انهيار مالي غير مسبوق.

الأبنية والبنية التحتية

وفق تقييم مشترك للبنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تأثر نحو 90000 مبنى بين منازل ومحال ومؤسسات عامة، منها 23489 مبنى دُمّر بالكامل.

بلغ عدد الوحدات السكنية المتضررة 99000 وحدة، وأصبح 29 في المئة منها غير صالح للسكن. كما دُمّر 262 مبنى بالكامل في منطقة الضاحية الجنوبية لبيروت وحدها جراء الغارات الجوية.

وتقدّر الخسائر في قطاع السكن وحده بنحو 4.6 مليار دولار، أي ثلث إجمالي أضرار الحرب.

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى تدمير 989 مرفقاً حيوياً (مستشفيات ومدارس ومحطات مياه).

أما منظمة العفو الدولية، فأكدت أن إسرائيل دمرت أو ألحقت أضراراً جسيمة بأكثر من 10 آلاف مبنى تاركة ربع القرى الجنوبية غير صالحة للسكن.

الزراعة الضحية الأكبر

تقدر منظمة الأغذية والزراعة ووزارة الزراعة اللبنانية الخسائر المادية في القطاع بـ 118 مليون دولار، بينما بلغت الخسائر الإنتاجية 586 مليون دولار، ليصل المجموع إلى أكثر من 700 مليون دولار حتى مطلع 2025.

بحسب تقرير البنك الدولي، تجاوزت خسائر الزراعة المليار دولار بنهاية 2024، نتيجة احتراق 3922 هكتاراً من الأراضي الزراعية والغابات بفعل القصف والفوسفور الأبيض. كما أُتلفت 134 هكتاراً من أشجار الزيتون و48 من الحمضيات و44 من الموز، وتراجعت الإنتاجية في المناطق الزراعية الجنوبية بنسبة حادة تتجاوز الـ 70 في المئة.

وتقدر بعض التقارير أن الجيش الإسرائيلي أحرق 40 ألف شجرة زيتون في الشهر الأول من الحرب، ما دمر مصدر رزق مئات العائلات. أضف إلى ذلك تلوث التربة، وتعطل الري، وتوقف العمالة الزراعية بسبب النزوح والخطر الأمني. هذه الخسائر لا تقتصر على المزارعين، بل تهدد الأمن الغذائي الوطني، إذ يُنتج الجنوب والبقاع نحو 40 في المئة من زيت الزيتون وربع الفاكهة اللبنانية.

التجارة والصناعة والسياحة

وليس بعيداً ما تكشفه التقارير عن تضرر أو تدمير 14748 مشروعاً تجارياً، بحسب البنك الدولي، كما أغلقت 25 في المئة من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة نهائياً جنوب لبنان، وعلقت 75 في المئة نشاطها خلال الحرب.

أما السياحة شريان الاقتصاد اللبناني فتكبدت 1.1 مليار دولار من الخسائر في 2024، وانخفضت نسبة إشغال الفنادق إلى أقل من 15 في المئة خلال صيف 2024، وهبط عدد الرحلات الجوية في مطار بيروت، حتى توقف بشكل شبه تام لأشهر طويلة. وتراجع الطلب على الخدمات الفندقية والمطاعم والنقل، كذلك هاجر آلاف العاملين في هذا القطاع نحو الخارج.

فاتورة مزدوجة

وأكد الخبير في الأمن القومي والاستراتيجي العميد المتقاعد يعرب صخر، أن الذكرى الثانية لعملية “طوفان الأقصى” ترافقت مع مرور عامين على اندلاع “حرب الإسناد” في لبنان، فكانت على حد وصفه “ذكرى مزدوجة بخسائر مزدوجة”. وأشار صخر إلى أن هذه الحرب التي خاضها “حزب الله” تحت عنوان “الإسناد لغزة” لم تكن حرباً شاملة ولا حالة سلم، بل منطقة رمادية أتاحت لإسرائيل أن تفعل فعلها بعدما تخلت وحدة الساحات عن “حماس”.

ورأى أن هذه التطورات شكلت نقطة تحول كبرى في ميزان القوى الإقليمي، إذ إن إيران التي فرضت على “الحزب” المناوشة من دون فتح حرب شاملة، تسببت بخسارة مزدوجة أولاً للبنان الذي دفع ثمن الصراع، وثانياً للحزب الذي فقد قدراته وموقعه الميداني. وقال “الحرب أعطت درساً واضحاً، أن المقاومات التي ترهن قرارها لمصالح دول براغماتية كإيران هي الخاسر الأكبر، لأنها تفقد استقلاليتها وهدفها الوطني”. ولفت صخر إلى أن الكلفة البشرية كانت قاسية للغاية، موضحاً أن البيئة الحاضنة للحزب تكبّدت نحو 20 ألف شخص، بين قتيل ومصاب ومفقود، نتيجة العمليات الإسرائيلية المتقدمة، ولا سيما عملية “البيجر”. وأضاف “الجنوب اللبناني تحول إلى منطقة شبه ميتة، إذ يمتد الخط الأمامي من الناقورة إلى كفرشوبا بعمق ثلاثة كيلومترات بطول 120 كلم، وهو خط غير قابل للحياة، بحسب تعبيره. وأشار إلى أن أكثر من 12 إلى 14 قرية مُسحت عن وجه الأرض، معتبراً أننا “أمام شرق أوسط جديد قائم على الاستقرار والتنمية، والأحداث أثبتت صوابية خيار السلم ورفاهية الإنسان وبطلان خيار الممانعة. هذا المشروع الإقليمي سيقود إلى تحييد الإسلام السياسي واليمين الصهيوني المتطرف معاً، ولا يمكن أن يولد شرق أوسط جديد ما لم يلغ الوضع الذي كان قائماً في السابق”.

وحدة الساحات… سبب الحرب والخسارة

من جانبه، يرى الكاتب الصحافي عماد الشدياق أن شعار وحدة الساحات الذي رفعه “حزب الله” كان المدخل المباشر إلى الحرب والخسارة. وأشار إلى أن هذا الشعار، الذي استُخدم لتبرير فتح جبهة الجنوب، أدخل لبنان في مواجهة لم يكن مضطراً لخوضها، ولفت إلى أن الخسائر البشرية في صفوف الحزب كانت كارثية، إذ تشير التقديرات الإسرائيلية إلى 2700 قتيل على الأقل من عناصره، إلى جانب آلاف الجرحى والمفقودين، وقال “الحزب يتكتم بشدة على الأرقام الحقيقية”.

وفي ما يتعلق بالوضع الأمني، رأى الشدياق أن الحزب ما زال يسيطر ميدانياً على الجنوب والضاحية والبقاع، لكن هذه السيطرة لم تعد مطلقة كما في السابق، و”اليوم يملك الحزب الساحة بخجل، فالسماء لم تعد له، والطائرات المسيرة الإسرائيلية في الجو أفقدته حرية الحركة. ولم يعد قادراً على المناورة أو فرض المعادلات. البيئة الحاضنة ما زالت تدافع عنه وتسمح له بالبقاء، لكنها منهكة ومثقَلة بالخسائر، وهي وحدها ما يتيح له الحفاظ على ما تبقى من قوته”.

في المقابل، قال الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم، إن “الحزب خاض المعركة وكانت صعبة ومعقدة جداً”، وقال “لم يمر علينا خلال الـ 40 سنة ونيف مثل هذا الضغط الكبير وهذا الخطر الكبير”، مضيفاً أنهم خرجوا من هذه المعركة بقوة وعزيمة وثبات واستمرار.