
لمن نسي التاريخ: قبل ربع قرن الأربعاء 20 أيلول 2000 – نداء بكركي الذي حطّم كل الممنوعات
سيبقى العام 2000 عامًا محوريًا في تاريخ لبنان، فقد شهد عدة أحداث سترخي بظلالها على الوطن لسنوات طويلة.
كان أولها الانسحاب الاسرائيلي في 25 أيار من الجنوب: فقد نفّذ رئيس الوزراء الإسرائيلي ايهود باراك وعده الذي قطعه خلال حملته الانتخابية وسحب جنوده من لبنان لأول مرة منذ اجتياح 1978 وسارع “حزب الله” لملء الفراغ الذي خلّفه الجنود الاسرائيليون، فيما تمنعت الحكومة اللبنانية عن ارسال الجيش اللبناني الى القرى الجنوبية المحررة بحجة عدم حماية الحدود الاسرائيلية، وتسلم “حزب الله” وحركة أمل القرى التي أخلاها الجيش الاسرائيلي وجيش لبنان الجنوبي وقامتا باعتقال عناصر جيش لبنان الجنوبي التي بقيت في قراها ولم تغادر الى اسرائيل وسلمتهم الى السلطات القضائية اللبنانية بعد اجراء تحقيقات أولية معهم كما سجل انتشار محدود للحزب السوري القومي الاجتماعي في بعض القرى المسيحية في قضاء مرجعيون.
رافق هذا الانسحاب مغادرة مئات العائلات الجنوبية لقراها ودخولها الأراضي الاسرائيلية خوفاً من انتقام “حزب الله”، لكن لم يسجل الاعتداء على أي لبناني اتهم بالتعامل مع اسرائيل، بل تم تقديم الآلاف من رجال القرى الحدودية الى المحكمة العسكرية التي أصدرت بحقهم أحكاماً مخففة راوحت ما بين السجن 3 أشهر وحتى 7 سنوات، ومعظمهم نالوا أحكاماً راوحت ما بين السنة والسنة والنصف.
على أثر الانسحاب الإسرائيلي ظهرت الى العلن لأول مرة قضية مزارع شبعا المحتلة من قبل القوات الاسرائيلية منذ حرب 1967 التي ما يزال الجيش الاسرائيلي متمركزاً فيها، والملتبسة ملكيتها بين لبنان وسوريا، واعتبرت الحكومة اللبنانية و “حزب الله” ومن ورائهما سوريا أن الانسحاب الاسرائيلي ليس ناجزاً ما دامت مزارع شبعا محتلة، وبالتالي ما يزال سلاح “حزب الله” ضرورياً لتحرير المزارع، وحتى اليوم لم تحل قضية هذه المزارع ان كانت لبنانية أم سورية.
الحدث الثاني كان إقرار قانون جديد للانتخابات النيابية، هذا القانون الذي عرف بقانون غازي كنعان رئيس جهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية العاملة في لبنان والحاكم الفعلي للبنان منذ 13 تشرين الأول 1990.
الحدث الثالث تمثل بغياب الرئيس السوري حافظ الأسد في 10 حزيران عن مسرح الأحداث بعد صراع مع المرض، وهو الذي حكم سوريا منذ عام 1970 وشارك في حكم لبنان منذ عام 1975 وحكمه فعلياً منذ أواخر عام 1990، وحوّل بلده إلى لاعب اقليمي مهم، ورغم الخوف الكبير من حدوث اضطرابات في سوريا بعد وفاة الرئيس الأسد، تم الانتقال بهدوء وتسلم نجله الدكتور بشار مقاليد السلطة.
لم يطابق حساب حقل السلطة حساب البيدر فاكتسح الرئيس رفيق الحريري المعارض يومها جميع مقاعد دوائر بيروت وأسقط رئيس الحكومة سليم الحص وكل اللوائح المدعومين من السلطات اللبنانية والسورية بكميات هائلة من الأصوات، كما حقق الزعيم وليد جنبلاط المتحالف مع القيادات المعارضة المسيحية انتصاراً كبيراً في دائرة عاليه – بعبدا.
وحققت المعارضة انتصارًا مهمًا في دائرة المتن الشمالي تمثل بخرق لائحة الوزير ميشال المرّ المدعومة من السلطة وآلاف المجنسين والناخبين الأرمن من قبل النائب نسيب لحود والشيخ بيار أمين الجميل الذي يترشح للمرة الأولى. كما سجلت هذه الانتخابات انتصارات لعدة قيادات مسيحية معارضة ستتجمع لاحقاً في لقاء قرنة شهوان.
على أثر انتهاء الانتخابات النيابية وفيما البلاد تشهد تصاعدًا في الخطاب السيادي، وبعد نضال استمر لعقد من السنين، بدأت البطريركية المارونية خطواتها العملية لاعادة إستقلال لبنان الفعلي، فعند ظهر الأربعاء 20 أيلول وعلى أثر انتهاء اجتماع المطارنة الموارنة الشهري وقف المونسنيور يوسف طوق أمين سر البطريركية المارونية أمام إعلاميي الصرح البطريركي في بكركي ليذيع البيان، الذي أحدث زلزالًا مدويًا وحطم كل الممنوعات.
أعلن النداء بالصوت العالي أنه وقد بلغ الوضع في لبنان هذا الحد من التأزم، فأصبح من الواجب الجهر بالحقيقة، دون مواربة أو تحفظ، على ما هي راسخة في النفوس، حيث أن الناس يتسارون بها فمًا الى أذن، ويخشون البوح بها خوف الاعتقال وما يجره عليهم من وبال، ومعلوم أن الحقيقة وحدها تنقذ، وذلك قبل فوات الأوان، ولهذا رأينا أن نتوجه اليوم إلى كل من يهمه الأمر في لبنان وخارجه بهذا النداء، لعله يسارع إلى الاسهام في عملية الانقاذ.
فصّل النداء التجاوزات التي رافقت الانتخابات النيابية الأخيرة، وشرح الوضع الاقتصادي المزري الذي لم يعرفه لبنان، حتى إبّان المعارك، وفنّد المضاربات التي يتعرض لها الانتاج اللبناني الزراعي والصناعي، وبخاصة من قبل الانتاج السوري، وتحدث عن اليد العاملة التي تزاحم اللبنانية، لا سيما السورية منها. وتحدث مطولاً عن الوضع السياسي حيث يعاني الوطن منذ ربع قرن سياسة غير سليمة مفروضة عليه، وقد حاول عبثاً التفلت من قيودها، فما زادته محاولاته الا عجزًا وضعفًا وبؤسًا وشدد على رفض العودة الى الحروب التي دارت رحاها على أرض الوطن.
وختم بتوجيه أسئلة لا بدّ منها فأشار إلى أن تحرير الجنوب قد مهد السبيل للدولة لتبسط سلطتها على جميع أراضيها، متسائلاً: أفلم يحن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيداً لانسحابه نهائياً، عملاً باتفاق الطائف؟ وهل من الضرورة أن يبقى مرابضاً في جوار القصر الجمهوري، رمز الكرامة الوطنية، ووزارة الدفاع، وفيما سوى ذلك من أماكن حساسة يشعر اللبنانيون لوجوده فيها بحرج كبير، لئلا نقول بانتقاص من سيادتهم وكرامتهم الوطنية؟
طالب النداء بأن يعاد انتشار الجيش السوري في لبنان تمهيداً لانسحابه نهائيًا عملاً بالقرار 520 وباتفاق الطائف، ومنوهًا بما بين لبنان وسوريا من روابط تاريخية وجغرافية، وبين شعبيهما من وشائج قربى ونسب وصداقة ومصالح مشتركة.
شكل النداء زلزالاً على مستوى الوطن والمنطقة، فأحدث لدى سوريا وحلفائها بلبلة واسعة، وبدأت الردود القاسية عليه من قبل المرجعيات الدينية الاسلامية التي تداعت في اليوم نفسه لعقد لقاء في دار الفتوى حضره المفتي الشيخ محمد رشيد قباني ونائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان بتأييد من قائمقام شيخ عقل الطائفة الدرزية الشيخ بهجت غيث صدر على أثره بيان رفض ما جاء في النداء معلناً التمسك بالوجود السوري في لبنان.
كان البيان المحضر أقسى من الذي تلي، ولكن تدخل الرئيس رفيق الحريري مع دار الفتوى خفف من حدته، ما ولد غضبًا سوريًا عليه.
انطلقت المواقف والتصريحات المنددة بنداء بكركي من قبل القيادات والشخصيات والأحزاب المؤيدة لسوريا، فعقدت حكومة الرئيس سليم الحص اجتماعاً استثنائياً أعلنت على أثره أن الوجود السوري في لبنان هو شرعي وضروري ومؤقت، دون أن تفصّل أكثر.
كما شهدت محطات التلفزيون والاذاعة والصحف عشرات التصاريح والبيانات المنددة بالنداء والمؤيدة للوجود السوري في لبنان، فيما رحبت معظم القيادات المسيحية به وطالبت بمناقشته مناقشة واقعية، ودرس الأسباب التي أوصلت البلاد الى ما وصلت إليه.
كان سبق نداء أيلول 2000 بيان أصدره مجلس المطارنة الموارنة في 5 تموز حذّر فيه من الانفجار جراء الوضع الاقتصادي الخانق الذي أصبح لا يطاق، وفي قضية الجنوب حمل البيان على الدولة التي لم تثبت وجودها فيه وتركت الأمر لرجال الدرك الذين لم يتمكنوا من فرض الأمن، وكان ذروة الموقف الهجومي في البيان التساؤل: أحقاً كانت الدولة ترغب في اخراج المحتل كيلا تبادر إلى الامساك بالأرض لأسباب لا يدركها الا العارفين؟.
أما في موضوع الانتخابات الوشيكة فجزم البيان بأنها لن تأتي بالتمثيل الشعبي الصحيح في ظل القانون الموضوع.
وككل عام كان للقوى والأحزاب المسيحية المعارضة خلال شهر أيلول مواعيد مع قداديس الشهداء، لكن مواعيد سنة 2000 كان لها نكهة أخرى، بعد أن بدأ جدار الخوف يتحطم.
بعد ظهر الخميس 14 أيلول وفي ذكرى مرور 18 عاماً على استشهاد الرئيس الشيخ بشير الجميل ورفاقه، امتلأت الأشرفية بآلاف القادمين إليها، للمشاركة في القداس الذي دعت اليه مؤسسة الرئيس بشير الجميل، وأعطى حضور الرئيس أمين الجميل الى الأشرفية لأول مرة بعد عودته من المنفى زخمًا كبيرًا للشباب المعارض، الذين راحوا يطلقون صرخات وشعارات الحرية والسيادة والاستقلال، التي حرموا منها لعقد من السنين، وعاد للأشرفية مجدها السابق.
الموعد الثاني كان نهار الأحد 17 أيلول في مدافن دير سيدة إيليج في القطارة – ميفوق، حيث يرقد المئات من شهداء القوات اللبنانية، الذين لم يتمكن أهلهم من نقلهم إلى بلداتهم خلال سنوات الحرب، وككل سنة منذ اعتقال الدكتور سمير جعجع عام 1994 يقصد أهلهم ورفاقهم المدافن في الأحد الذي يلي 14 أيلول ليصلوا لراحة أنفسهم، وكانت تعمد السلطات الأمنية على عرقلة القادمين إلى كنيسة ايليج وسوق بعضهم لاحقاً إلى التحقيق، لكن هذا العام كان موقف السلطة أقسى بكثير، فنشرت الحواجز على بعد عشرات الكيلومترات، التي راحت تدقق بالسيارات وتعرقل تقدم المشاركين، ولكن رغم المضايقات التي تعرضوا لها والاهانات التي وجهت اليهم، والتوقيفات التي شملت العشرات، تمكن الآلاف من الوصول إلى المدافن واحتفلوا بالذبيحة الإلهية بعد تأخير لساعات، ومساءً كان العشرات من مناصري القوات اللبنانية على موعد مع التوقيف والحجز والتحقيق.
الموعد الثالث لشباب الأحزاب المسيحية المعارضة، كان بعد ظهر السبت 21 تشرين الأول وفي الأشرفية مجدداً، في القداس الذي أقيم في الذكرى العاشرة لاستشهاد رئيس حزب الوطنيين الأحرار داني شمعون وزوجته وطفليه، حيث عادت جماهير المعارضة مجدداً إلى شوارع الأشرفية، وامتلأت سماؤها بأصواتهم المطالبة بالحرية والسيادة والاستقلال، ورحيل القوات السورية.
في هذا الوقت حاول الرئيس نبيه بري امتصاص النقمة الشعبية المتصاعدة، فزار في 24 تشرين الأول الصرح البطريركي في بكركي وعقد خلوة مع البطريرك صفير خرج على أثرها ليعلن أن الجيش السوري بدأ اعادة انتشاره في لبنان منذ نيسان الماضي وينوي استكمالها، وتعهد باطلاق السجناء اللبنانيين في سوريا، لكنه عاد ولزم صمتاً مطبقاً، وقيل أن سوريا كانت وراء صمته بعد أن اشتكى لديها الرئيس لحود من أن رئيس المجلس تحدث أمام الصرح البطريركي بمواضيع يجب أن تهتم بحلها رئاسة الجمهورية اللبنانية تحديداً.
أما في ما خص الحكومة الجديدة، فلم تستطع السلطة تجاهل الانتصار المدّوي للرئيس رفيق الحريري وان حاولت تأخير استحقاق تشكيلها، فعلى أثر الاستشارات النيابية كلّف الرئيس اميل لحود الرئيس رفيق الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، التي تقاسم مقاعدها مع الرئيس لحود وحلفاء سوريا، وعلى غرار جميع الحكومات التي شكلت منذ عام 1991 تحكمت دمشق بالوزارات الأمنية.
في 2 تشرين الثاني كان أول أيام جلسة الثقة النيابية بالحكومة الجديدة، ولم يكن مرّ 6 أسابيع على بيان مجلس المطارنة، حتى تفجرت قضية الوجود السوري في لبنان داخل قبة المجلس النيابي على نحو مفاجئ وبصورة لا سابق لها منذ دخول الجيش السوري الى لبنان عام 1976، فبعد الانتهاء من تلاوة البيان الوزاري طلب النائب الدكتور ألبير مخيبر العائد حديثاً الى البرلمان بعد مقاطعة العام 1992 واسقاطه عام 1996 الكلام وكان أول المتكلمين من النواب، فوقف أمام مقعده وقدّم مطالعة طويلة شرّح خلالها قضية الوجود السوري في لبنان، وطالب بصوتٍ عالٍ بانسحاب القوات السورية من لبنان وقيام تمثيل دبلوماسي بين البلدين.
أنهى الدكتور مخيبر كلمته، فخيم الوجوم والسكوت على جميع الحاضرين، وعلى غير العادة طلب الرئيس رفيق الحريري الكلام للرد عليه، فدافع باسم الحكومة عن الوجود السوري في لبنان وأعلن أنه شرعي وضروري ومؤقت ولبنان بحاجة ماسة اليه.
قبل أن يتم استيعاب الصدمة التي أحدثتها كلمة الدكتور مخيبر، جاء حديث البطريرك صفير ليلاً إلى محطة أوربت الفضائية الذي تولت نقله محطة أم تي في ليعطي انطباعاً راسخاً بأن قضية الوجود العسكري السوري لم تعد من القضايا القابلة للطي.
على أثر مواقف البطريرك صفير والدكتور ألبير مخيبر تتابعت خلال جلسات مناقشة البيان الوزاري المواقف النيابية المطالبة بوضع حد للوجود السوري في لبنان واعادة انتشار القوات السورية، وشكل النواب المسيحيون: بطرس حرب، نائلة معوض، فارس سعيد، منصور غانم البون، بيار الجميل، نسيب لحود، صلاح حنين، أنطوان غانم، عبد الله فرحات، طليعة المطالبين بالانسحاب السوري، لكن الموقف الأبرز كان للزعيم وليد جنبلاط الذي طالب باعادة تمركز القوات السورية في لبنان تطبيقاً لاتفاق الطائف.
شكل موقف وليد جنبلاط صدمة لسوريا وحلفائها في لبنان، الذين راحوا يكيلون له عبر وسائل الاعلام وصفحات الجرائد الشتائم والتهم خاصة تهمة العمالة لاسرائيل، ولتبيان مدى غضبها من مواقف الزعيم الاشتراكي صدر تعميم سوري منع بموجبه وليد جنبلاط وأركان حزبه من دخول الأراضي السورية.
موقف الزعيم جنبلاط والنواب المسيحيين استوجب ردودًا من النواب المؤيدين لسوريا الذين توزعوا الأدوار وراحوا يكيلون الشتائم للمطالبين بالانسحاب السوري واعادة الانتشار، وشكلت مواقف كل من النواب: علي عمار باسم كتلة نواب “حزب الله”، وعلي حسن خليل باسم كتلة نواب التنمية والتحرير التي يترأسها الرئيس نبيه بري، وعاصم قانصوه باسم كتلة نواب حزب البعث السوري، ومروان فارس باسم كتلة نواب الحزب السوري القومي الاجتماعي رأس الحربة في الدفاع عن الوجود السوري في لبنان ومهاجمة منتقدي هذا الوجود، ولم يتورع النائب عاصم قانصوه من توجيه التهديدات للنائب وليد جنبلاط، ما كاد ينسف الجلسة لو لم يسارع الرئيس نبيه بري لشطب عبارات التهديد من محضر الجلسة.
تحطم الجدار السوري المرعب في لبنان، وبدأ الناس يتحدثون عن التجاوزات السورية بصوتٍ عالٍ بعد أن كانوا يهمسون بها همسًا، ومن يومها بدأ الحديث أيضًا عن موضوع آخر كان من المحرمات وهو مصير المعتقلين والمسجونين اللبنانيين في السجون السورية، حيث راح أهلهم ينظّمون اللقاءات والاعتصامات مطالبين بمعرفة مصير أولادهم رغم القمع الشديد الذي كانوا يتعرضون له.
أقلعت حكومة الرئيس رفيق الحريري الرابعة، التي حاولت معالجة الوضع الاقتصادي المتدهور، فسعت لعقد مؤتمر باريس واحد في شباط 2001، علّها تستطيع إخراج لبنان من دوامته، واستمر التصعيد السيادي، وكان الذروة في جولة البطريرك صفير الأميركية حيث تابع تصعيد لهجته السيادية، وشكلت عودته استفتاءً شعبياً كبيراً حيث خرج عشرات آلاف المسيحيين لاستقباله من مطار بيروت وحتى الصرح البطريركي في بكركي.
بعد عودة البطريرك صفير من جولته بدأت مرحلة جديدة هادئة، شهدت عدة لقاءات بين الأضداد، أما أهم حدث شهده اليوم الأخير من نيسان فكان ولادة لقاء قرنة شهوان الذي شاركت فيه قيادات مسيحية تمثل مختلف الاتجاهات والتيارات، ووزع اللقاء وثيقته التي حملت عنوان “من أجل حوار وطني” كانت خلاصة اجتماعات استمرت شهراً، وتضمنت الوثيقة مجموعة أفكار للتحاور في شأنها.
لم تمض أيام قليلة على إعلان الوثيقة حتى صدرت بيانات ومواقف عنيفة ضدها من قبل بعض حلفاء سوريا، ولاحقًا اضطرت دمشق للتدخل المباشر لانتقاد معارضيها في لبنان، ففي تصريح له لجريدة الديار اتهم العماد مصطفى طلاس البطريرك صفير بطلب تدخل اسرائيل عن طريق البابا يوحنا بولس الثاني لحماية المسيحيين عام 1983، وعن وليد جنبلاط اعتبر أن سوريا اخترعته.
استوجب كلام وزير الدفاع السوري ردوداً من بعض القيادات اللبنانية المعارضة كان أعنفها رد النائب بطرس حرب.
في شهر أيار 2001 ارتفع مجدداً إسم لبنان عالياً مع اعلان قداسة الحبر الأعظم البابا يوحنا بولس الثاني الطوباوية رفقا الريّس قديسة على مذبح الكنيسة، وعمت الاحتفالات لبنان وبلاد الانتشار.
وشكلت الجلسة النيابية العامة المخصصة لمناقشة مشروع الموازنة التي عقدت في أواخر أيار من العام 2001 فرصة لهجوم بعض النواب على الأجهزة الأمنية كان أعنفها هجوم عضو كتلة اللقاء الديمقراطي النائب باسم السبع المقرب من الرئيس رفيق الحريري. كما ساد سوء فهم عميق بين الرئيس الحريري المعترض على عمليات المقاومة الاسلامية في مزارع شبعا و “حزب الله”.
أتى شهر آب ليختم جرحاً نازفاً منذ عام 1983، فلأول مرة من نحو 200 سنة قام البطريرك صفير في 3 آب بزيارة الجبل.
هذه الزيارة التي رافقتها استقبالات شعبية كبيرة في جميع محطاتها خاصة في: خلدة، الجية، الدامور، كفرحيم ودير القمر معلنة ختم الجرح النازف، وبات البطريرك صفير ليلته في مقر المطرانية المارونية في بيت الدين، وفي صباح اليوم التالي زار الرئيس اميل لحود في مقره الصيفي في بيت الدين، واستقبل الزعيم وليد جنبلاط، وكانت ذروة الاستقبالات ما شهده ظهرًا قصر المختارة، الذي جمع في استقبال البطريرك الماروني جميع القيادات المعارضة.
لم يتأخر رد السلطة فكان 7 و 9 آب 2001 لكن مسيرة الاستقلال الثاني كانت انطلقت من يوم اطلاق النداء، ما عادت توقفت.