
المعدن الأصفر إلى 20 ألفًا… إذا وقع المحظور
إلى متى سيستمرّ سعر الذهب بالصعود؟ وما هو السعر الذي قد يبلغه مستقبلًا؟ هذا السؤال يقضّ مضجع العالم كلّه من أفراد، مستثمرين، مصارف مركزية، وحتى دول، ولا أحد يملك إجابات شافية على هذه التساؤلات. إلّا أنّ الغوص في الأرقام يكشف لنا أنّ سعر الذهب (الأونصة) سيواصل الارتفاع. ولا يُستبعد أن يصل السعر إلى 7 آلاف، وربّما 11 ألفًا. بل 15 أو 20 ألفًا للأونصة الواحدة في حال وقع المحظور.
من المفارقات الغريبة أنّ سعر الذهب لا يرتفع اليوم حول العالم على حساب ملاذات أخرى، مثل الأسهم كما كان يحصل في العادة. بل على العكس، فإنهما يرتفعان معًا. وهي من الحالات النادرة التي كتبت عنها أكبر الدوريات الاقتصادية في العالم، مثل مجلّة “فوربس”.
تقول “فوربس” إنّ قفزة أسعار الذهب بأكثر من 44 % هذا العام، يرافقها ارتفاع في الأسهم الأميركية بنحو 14 %، وهو تزامُن تاريخيّ قليل الحدوث، لأنّ الذهب يُعتبر ملاذًا في أوقات الخوف مقابل الأسهم التي تعكس غالبًا التفاؤل والنمو الاقتصادي.
أسباب ارتفاع الذهب
المقال يفسّر هذا المشهد بمزيج من العوامل: ضعف الدولار، توقعات خفض الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي، الغموض الاقتصادي الذي يدفع المستثمرين نحو تنويع محافظهم، وكذلك بحث المصارف المركزية حول العالم عن بدائل آمنة بخلاف الدولار.
المقال ذكّر بسوابق تاريخية مشابهة حصلت في السبعينات، وانتهت باضطرابات قوية. مما يعني أنّ هذا التلاقي الحالي قد يُخفي خلفه أمرًا خطيرًا، يتمثل باستمرار هشاشة النظام المالي العالمي وربّما انهياره.
ذهب العالم كلّه: 26 تريليون دولار
من المعروف أنّ الذهب ليس سلعة عادية. بل هو “مخزن ثقة” عالمي قديم قدم التاريخ وتتراكم حوله كل المخاوف والتوقعات. القيمة الملموسة لكلّ الذهب المستخرج عبر التاريخ يقدّرها المجلس العالمي للذهب اليوم، بنحو 216 ألف طن وتوازي 26 تريليون دولار وفق السعر الحالي الذي يدور حول 3,700 دولار للأونصة الواحدة.
في المقابل، تبلغ القيمة الإسمية للعقود المشتقة على الذهب وحده، بين1 و 1.5 تريليون دولار فقط. وهذا يعني أنّ السوق الورقي للذهب لا يتجاوز في حقيقته 10/1 (عُشر) من حجم المعدن المادي المتداول فعليًا.
لكن الأخطر يظهر حين ننظر إلى الصورة الأوسع: القيمة الإسمية لسوق المشتقات المالية العالمية ككل، بما يشمل العملات، وأسعار الفائدة، والأسهم، والسلع، تتراوح كلّها بين 200 و300 تريليون دولار.
ماذا لو وقع المحظور؟
وإذا انفجرت هذه الفقاعة بفعل أزمة اقتصادية عالمية، أو أزمة ثقة بالنظام المالي، فإنّها ستدّمر هذا البنيان الورقي العملاق. أيّ اهتزاز في الثقة قد يدفع المستثمرين إلى اللجوء نحو الملاذ الأكثر أمانًا: الذهب المادي… وهنا تحديدًا تبدأ الحسابات المقلقة.
إذا افترضنا أنّ أزمة مالية أو انفجار فقاعة في المشتقات دفعت عقود المشتقات للتحول من الذهب الافتراضي إلى الذهب الملموس (Physical Gold) فإنّ سعر الأونصة قد يرتفع لما بين 5 و7 آلاف دولار للأونصة الواحدة… وهو رقم يتوقعه أغلب مراكز الأبحاث والمصارف في السنوات القليلة المقبلة.
أمّا إذا تحوّلت نسبة 10 % من سيولة القيمة الإسمية لكامل سوق المشتقات المالية (أي بين 20 و30 تريليون دولار) إلى الذهب، فإنّ ذلك سيوازي تقريبًا كامل قيمة الذهب المادي الموجود في العالم (26 تريليون دولار). فهذا السيناريو وحده سيكون كفيلًا بدفع سعر الأونصة إلى ما بين 7,000 و11,000 دولار بحسب التقديرات.
أمّا إذا تضاعف الضغط وتحركت نسبة 20 % من سيولة المشتقات نحو المعدن الأصفر، فإنّ تقديرات المحللين تضع سعر الأونصة في نطاق 15 إلى 20 ألف دولار للأونصة الواحدة.
إذًا، المشهد يشبه نظام “الاحتياطي الإلزامي” في المصارف، حيث لا يمكن لجميع المودعين سحب ودائعهم في الوقت نفسه. ولكل أونصة ذهب موجودة فعليًا، هناك مطالبات ورقية متعددة، وإذا طالب الجميع بتسلّم ذهبهم الملموس، فلن يكون الذهب الموجود كافيًا لسدّ الطلب. عندها سيتبيّن أن الذهب المتاح لا يغطي سوى نسبة محدودة من الالتزامات، وهو ما سيؤدي إلى قفزات سعرية عنيفة، تبخّر حتمًا قيمة الأدوات الورقية.
نماذج من التاريخ الحديث
في أزمة 2008، ارتفع سعر الذهب من نحو 730 دولارًا إلى أكثر من 1,300 دولار في غضون عامين، وسجّلت الأسواق الأميركية علاوات على السبائك المادية بنسبة قاربت 25 % فوق السعر الفوري، لأن المستثمرين أرادوا المعدن بأيديهم لا أوراقًا مؤجلة.
خلال جائحة كورونا في العام 2020، تعطّلت حركة الطيران العالمي، فارتفعت الفوارق بين السعر الورقي والسعر المادي بسبب صعوبات الشحن بين لندن وسويسرا ونيويورك.
القرن التاسع عشر لم يخلُ من هذه المشاهد: “الجمعة السوداء” عام 1869 حين حاول شخصان (جاي غولد وجيمس فيسك) احتكار السوق عبر العقود.
أزمة 1893، حين نزفت احتياطيات الخزانة الأميركية بعدما هرع الناس لاستبدال أوراقهم بالذهب.
من “الافتراضي” إلى “المادي”
اليوم، تعي المصارف المركزية خطورة هذه الفجوة، ولهذا تعمل بصمت منذ سنوات على تعزيز احتياطياتها من الذهب المادي. توزيع الذهب المستخرج يكشف أن نحو 46 % منه في صورة مجوهرات، و17 % في خزائن البنوك المركزية، ونحو 21 % بين أيدي الأفراد على شكل سبائك وأونصات وعملات ذهبية تعادل نحو 3 تريليونات دولار، فيما يذهب الباقي (16 %) إلى الاستخدامات الصناعية وصناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب. هذه الأرقام تعني أن الجزء “المتاح فورًا” للاستثمار محدود نسبيًا، وهو ما يزيد هشاشة السوق الورقية في حال تحوّل “الطلب الافتراضي” فجأة إلى “طلب مادي”.
أمّا السؤال البديهي الذي يُطرح اليوم: فمتى قد تنفجر هذه الفجوة؟ السيناريوات ليست خيالية. فأيّ أزمة مالية كبرى في دول الغرب، أو أي اهتزاز في الثقة بالدولار كعملة احتياط عالمي، أو نزاع جيوسياسي كبير يعطل سلاسل التوريد، قد يكون شرارة الانطلاق. في تلك اللحظة لن تعود قيمة الأونصة مرتبطة بشاشة البورصة، بل بوزن المعدن الحقيقي بين أيدي حامله.