
اغتيال السيد حسن وعلامات الظهور … أيلول الأسود: إسرائيل و”حزب الله” خداع وانخداع
بين تفجيرات أجهزة البيجرز في 17 أيلول، واغتيال أمينه العام السيد حسن نصرالله في 27 أيلول، عاش “حزب الله” أيامًا سوداء أنهت تاريخًا من الصراع وحصدت قيادات رافقت “الحزب” منذ تأسيسه عام 1982، وبعضها كان ناشطًا حتى قبل هذا التاريخ، وكان سابقًا حتى في زمانه للسيد حسن قبل أن يتولّى منصب الأمانة العامة في 16 شباط 1992 خلفًا للأمين العام السيد عبّاس الموسوي الذي اغتالته إسرائيل بواسطة صواريخ أطلقتها من طوافة عسكرية على سيارته وهو عائد من جبشيت على طريق تفاحتا. أيلول الحزب الأسود سرق السواد حتى من شباط الذي كان شهر اغتيالات عدد كبير من قادته، الأمر الذي أدى إلى اعتماد يوم 11 شباط لإحياء ذكرى “شهدائه”. فهل سيبدّل هذا التاريخ وينقله إلى أيلول؟
منذ ظهر يوم السبت 28 أيلول بدأت تتأكّد معلومات إسرائيل عن نجاح عملية اغتيال نصرالله. ما لم يكن ممكنًا صار أمرًا واقعًا وحقيقة مرة وقاسية على “الحزب” الذي جعل منه نصرالله أكبر ميليشيا مسلحة غير شرعية في العالم كله، وزجّه في حروب على مستوى المنطقة. ولم يكن أمام “الحزب” من خيار إلا الإعلان عن اغتيال أمينه العام بكثير من الخيبة والفجيعة والانكسار والهزيمة.
قوة تدخّل من البوسنة إلى الأرجنتين
باعتراف نصرالله نفسه، ساهم “الحزب” بقوة في تغيير الواقع الذي كان قائمًا في العراق بعد إسقاط واشنطن بالقوة العسكرية حكم الرئيس العراقي صدام حسين، واحتلال بغداد والوصول إلى الحدود مع سوريا. في ظلّ هذا الاحتلال الأميركي للعراق عمل “حزب الله” على تحويل النفوذ داخل العراق من السنّة إلى الشيعة بدعم مباشر من إيران، ودخل في صراع كبير مع قوى سنية متطرفة حاولت بدورها السيطرة على بغداد خصوصًا بعد قيام تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” الذي عرف بتنظيم “داعش”.
نصرالله نفسه أقرّ بأنّه أرسل بين عامي 1992 و1995، وحدات إلى البوسنة والهرسك “للدفاع عن الأقلية الإسلامية” من أهل السنة، في الحرب ضد الصرب، قبل أن يطرد النظام الجديد هناك، بعد انتهاء الحرب وضمان استمراريته، مقاتلي “الحزب”.
وهو أعلن أيضًا أن حزبه قدّم للحوثيين في اليمن، كل الخبرات اللازمة لإنتاج الصواريخ والمسيّرات وتدريب المقاتلين وتنظيمهم. وهو ساهم في تقديم المعلومات اللازمة لإيران على مستوى العالم مستفيدًا من تكوين مجموعات تابعة له في دول كثيرة، خصوصًا في أميركا الشمالية والجنوبية وأفريقيا ودول أوروبية كثيرة، كانت أساسية في تنفيذ عمليات تفجير كثيرة اتُّهِم عناصر قياديون منه بالتخطيط لها والإشراف عليها، من السعودية إلى الأرجنتين والكويت وغيرها، وبعض هؤلاء قضت عليه إسرائيل في الحرب الأخيرة التي يمكن تسميتها بأنها “أيلول الأسود” الذي عاشه “الحزب”.
كلفة الحرب في سوريا
أكثر منطقة تدخل فيها “الحزب” كانت سوريا حيث زجّ بمقاتليه فيها دفاعًا عن نظام الأسد وحفاظًا على الطريق المفتوح بين طهران والضاحية الجنوبية عبر بغداد ودمشق. منذ العام 2011 خاض “الحزب” معارك كثيرة ودفع أثمانًا غالية انتهت خلال أيام بعد وصول قوات الرئيس الحالي في سوريا أحمد الشرع إلى دمشق وفرار الأسد إلى موسكو في 8 كانون الأول 2024. بعد بدء الحرب الإسرائيلية المباشرة والمدمّرة ضد “حزب الله” اعتبارًا من 17 أيلول 2024 حكي كثيرًا عن أنّ انخراط “الحزب” في الحرب السورية، واضطراره إلى إرسال قوات كثيرة إلى هناك، وتكرار عمليات التبديل، وانكشاف مجموعات كثيرة وقيادات كانت تتمتع بالسرية والغطاء الكامل، هي التي أدّت إلى أن تنجح إسرائيل في عمليات الاغتيال وصولًا إلى اغتيال نصرالله نفسه.
قد يكون مثل هذا الأمر صحيحًا. يمكن أن تكون إسرائيل حققت مثل هذا الأمر من خلال اختراق الساحة السورية والنظام السوري غير المحمي من الاختراقات، أو من خلال اختراق الجيش الروسي الذي دعم النظام السوري منذ أيلول 2015 بناء على طلب ملح إيراني حمله إلى موسكو قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني. ولكن اختراق إسرائيل للساحة السورية سابق لتدخّل “الحزب” في الحرب هناك. حيث اغتيل مسؤوله الأمني عماد مغنية في حي كفرسوسة في دمشق في 12 شباط 2008 ليصبح ثالث قيادي يُغتال في شباط بعد الشيخ راغب حرب والسيد عبّاس. في سوريا أيضًا اغتالت إسرائيل في 13 أيار 2016 مصطفى بدر الدين الذي كان مساعدًا لمغنية وحلّ محله. يضاف إلى ذلك اغتيال سمير القنطار وجهاد مغنية ابن عماد وقادة ميدانيين آخرين نعاهم “الحزب” تباعًا وأبّن بعضهم لأهميتهم السيد حسن نصرالله.
انخداع “الحزب بقوته”
تطورات وأحداث كثيرة جعلت “حزب الله” مخدوعًا في تقدير مدى قوته ومدى الضعف الإسرائيلي في المقابل. من هذه الأحداث:
• انسحاب إسرائيل في 25 أيار 2000 من الجنوب والشريط الحدودي بحيث اعتبر “الحزب” أنّه حرّر الأرض المحتلة وهزم الجيش الإسرائيلي.
• حرب تموز 2006 التي اعتبر “الحزب” أنّه نجح فيها وهزم إسرائيل مرة ثانية من خلال اختراق الخط الأزرق وتنفيذ عملية أمنية نوعية وخطف جنديين إسرائيليين تبيّن لاحقًا أنّهما قُتِلا ومن خلال ما اعتبر أنّه صمود خلال حرب دامت 33 يومًا وانتهت بقبول إسرائيل باتفاق وقف النار بعد صدور قرار مجلس الأمن الرقم 1701 الذي نصّ على نزع سلاح “الحزب” وتطبيق القرار 1559 واتفاق الطائف، وسيطرة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها بواسطة قواتها الذاتية، وهو القرار الذي يتصدّى “الحزب” اليوم له لمنع تنفيذه.
• تطبيق قواعد الاشتباك بعد وقف النار التي قامت على توازن الردّ والردّ على الردّ، الأمر الذي اعتبره “حزب الله” تحقيقًا لتوازن الرعب، وأنّه بات قوة رادعة لإسرائيل بحيث صارت تتهرّب من المواجهة معه.
• نجاح “الحزب” في دعم نظام الأسد وتحوّله إلى القوة الأساسية المتحكّمة بمسار الحرب في سوريا على الأرض وامتلاكه قوات ووحدات قتالية مدرّبة وانخراط مجموعات شيعية كثيرة في هذه الحرب التي حوّلها إلى حرب وجودية.
• نجاح “الحزب” في السيطرة على السلطة اللبنانية بعد عملية 7 أيار 2008 وتحكّمه بالقرار اللبناني وقرار تشكيل الحكومات وفرض تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية.
• نصب “الحزب “خيمتين في مزارع شبعا قبل حرب 2023 مباشرة، لم تعمد إسرائيل إلى قصفهما الأمر الذي اعتبره “الحزب” عجزًا إسرائيليًا حتى في مواجهة صغيرة من هذا النوع قياسًا على ذلك بدأ تسريب أجواء أنه قادر على تدمير إسرائيل.
الوهم الذي انهار فجأة
كان هناك شعور بفائض القوة لا يعبّر عن الواقع العملاني على الأرض. فقد اعتمدت إسرائيل على عملية خداع كبيرة ومستمرّة بحيث أسهمت في تقديم كل الدلائل التي تدعم نظريات “الحزب” بالقوة والسيطرة ليظهر بعدها أنّ “الحزب” خدع نفسه أيضًا وصحا على واقع أليم في أيلول الأسود 2024 وعلى اغتيال معظم قياداته التاريخية التي صنعت معه كل هذه الأحداث وخلقت كل هذا الوهم الذي انهار فجأة.
كل هذا العنفوان غير المبني على معطيات حقيقية جعل “الحزب” يرتاح لواقعه. اعتبر أنّه منذ العام 2006 استطاع أن يبني قوات كبيرة وأن ينظم نحو مئة ألف مقاتل، كما أعلن نصرالله مهدّدًا رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع. واستغلّ “الحزب” كل هذه الأعوام ليراكم ترسانته العسكرية ويطوّر قدرات متجدّدة في مجالي صناعة الصواريخ البعيدة المدى والدقيقة التوجيه، كما المسيّرات التي تباهى نصرالله أكثر من مرّة أنّه ينتظر عروضًا لبيعها إلى من يطلب. وكان يكفي لترسيخ هذا الاعتقاد الواهم أن يُطيِّر “الحزب” مسيّرات فوق مناطق في إسرائيل تعود بمشاهد مصورة وبتحديد إحداثيات لقواعد عسكرية أو منشآت للإيحاء أنّه يخترق إسرائيل وأنّه سيلقِّنها درسًا لا تنساه، وسينهي أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر.
الأنفاق التي وقع فيها
على هذا الأساس اعتمد “الحزب” تطوير مواقعه على الأرض بالطريقة التي كان نفّذ جزءًا منها قبل حرب تموز 2006 من خلال حفر الأنفاق والخنادق وتخزين الأسلحة والصواريخ فيها لمفاجأة الجيش الإسرائيلي وضربه من الخلف. ولذلك توعّد نصرالله أكثر من مرة هذا الجيش بأنّ مقبرته ستكون في لبنان، وأنّ مدرعاته إذا دخلت لن تعود، وبأنّ جيشه سيدخل عموديًا وسيعود أفقيًا. وتهكم عليه بأنّه واقف على رجل ونصف. نتيجة كل ذلك التباهي بالقوة صدّقت البيئة الشيعية ما كان يقوله نصرالله. ولذلك كانت الهزيمة مضاعفة.
إسرائيل في المقابل استفادت من دروس حرب تموز التي لم تكن قد خطّطت لها وتفاجأت بها ووضعت خططًا لمواجهة “حزب الله” الذي لم يغيّر كثيرًا من خططه، واستجمعت كل ما لديها من معلومات وما امتلكته من قدرات وإمكانات وطورتها لتوجه إلى “الحزب” الضربات الأقسى في أيلول الأسود 2024. وقد نجحت في ذلك. وبعد عام من ذلك التاريخ لا يزال “الحزب” يبحث عن أسباب الهزيمة من دون أن يقدم قراءة نقدية ومراجعة لأسباب الخسارة، أو أن يفهم لماذا حصل معه كل ذلك؟