
بيانات اللبنانيين معروضة للبيع بـ30 دولاراً!
لم تكد تمر دقائق على استهداف اسرائيلي لسيارة في منطقة النبطية جنوبي لبنان، الشهر الماضي، حتى انتشر اسم صاحبها. لم يصل ناشرو الإسم الى هويته من شكله، بل من رقم السيارة التي كان يستقلها.
فتحت هذه الحادثة تحقيقات حول تسرب بيانات اللبنانيين، ليتبين في ما بعد أن تلك البيانات متوافرة للبيع “أونلاين”، مقابل 30 دولاراً فقط! ويخصص بائعو تلك البيانات في منصة “تلغرام”، ميزة للشاري، وهي إخفاء هويته/بياناته من اللائحة (التطبيق) المعروض للبيع، مما يجذب آخرين لشراء التطبيق، كي يتمكنوا من إخفاء بياناتهم.
معضلة 20 عاماً
ويُنظر الى هذا الأمر على أنه فضيحة، بالنظر الى أنه ساهم في انكشاف اللبنانيين أمام الخارج، وتحديداً إسرائيل، التي استغلت تلك الثغرات الأمنية لتنفيذ استهدافتها والتعرف الى المستهدفين. إضافة إلى ان انكشاف خصوصيتهم في الداخل مما يعرّض أمنهم الرقمي والحقيقي للخطر.
لكن هذه الفضيحة في الواقع، ليست وليدة اللحظة. فمنذ العام 2005، بدأت البيانات تنتشر على “فلاش ميموري”، وتواصلت التسريبات من دون أن تُتخذ إجراءات جدية من قِبل الأجهزة الأمنية والجهات المعنية للحد منها، إلى أن وصلت الى المنصات الرقمية ومواقع التواصل. ففي العام 2015، أُطلق تطبيق أتاح لمستخدميه الحصول على معلومات عن السيارات ومالكيها بمجرد إدخال رقم لوحة السيارة.
وبعد الانتخابات النيابية التي جرت في أيار 2018، تلقّى عدد من المغتربين رسائل عبر البريد الإلكتروني تحتوي على بيانات شخصية للناخبين، بهدف التحقق من معلومات تسجيلهم، مما شكّل خرقاً واضحاً للخصوصية. وفي تموز من العام نفسه، اخترقت إحدى شركات القرصنة اللبنانية أمن عدد من المؤسسات العامة الكبرى، وطاولت هذه الاختراقات قاعدة بيانات الرحلات المدنية في مطار بيروت الدولي، والمواقع الإلكترونية التابعة لوزارتي الاقتصاد والداخلية، وهيئة “أوجيرو”، ومديرية الأحوال المدنية في وزارة الداخلية. كما تمكّنت من الحصول على معلومات من مواقع إلكترونية مرتبطة بالأجهزة الأمنية اللبنانية.
ولم تتوقف التسريبات عند هذا الحد، إذ كُشف في العام 2019 عن تسريب بيانات الأساتذة، فيما لا تخضع المنصات الحكومية التي أُنشئت خلال جائحة كورونا، لأي معايير حماية رقمية فعّالة.
رقم سيارتك مفتاح بياناتك
من هنا، يتحدث مدير البرنامج الإعلامي في منظمة “سمكس” للحقوق الرقمية، عبد قطايا لـ”المدن”، عن ظاهرة تسريب البيانات وبيعها عبر الإنترنت، موضحاً، “أنها ليست جديدة، بل منتشرة منذ سنوات، إلا أنها اليوم تُنشر بشكل محدَّث ومتجدد”. ويشير قطايا، إلى أنه بعد أي استهداف إسرائيلي، “يمكن لأي مشاهد عبر شاشة التلفزيون أن يحصل على تفاصيل السيارات ومالكيها من خلال بعض التطبيقات المنتشرة أو عبر قنوات على تطبيق “تلغرام”، هذه المعلومات تتداول بسرعة وتُرسل إلى الخارج، ولا يُعرف كيف يتم استخدامها”.
وهنا يُطرح سؤال حول دور الأجهزة الأمنية، التي يُفترض أن تعمل على سحب هذه البيانات من التداول ومحاسبة مسرّبيها. ويقول قطايا: “بيانات النافعة والمالية تُباع أيضاً، ولا نعلم ما إذا كانت شعبة المعلومات أو النيابة العامة قد تحركت في هذا الملف، وهل فُتحت تحقيقات وتُتابَع هذه القضايا؟”، مضيفاً: “يجب أن نسأل كيف تسربت هذه البيانات؟ وكيف يمكن معالجة التسريب؟ وما هي سُبل الحماية المستقبلية لمنع تكرار هذه التسريبات؟ هذه الأسئلة لا نملك أجابات واضحة عنها حتى الآن”.
ولدينا وزارة للذكاء الاصطناعي!
تشهد الدولة اللبنانية في الفترة الأخيرة مؤتمرات تتحدث عن التحول الرقمي، وتم إنشاء وزارة للذكاء الإصطناعي، لكن كيف يمكن الحديث عن “تحول رقمي” في غياب أطر واضحة لحماية الخصوصية واستراتيجيات وطنية للأمن السيبراني؟
يقول قطايا: “الحماية السيبرانية تتطلب تمويلاً كبيراً. لبنان سيحصل على قرض من البنك الدولي مخصص للتحول الرقمي بقيمة 150 مليون دولار أميركي، يمكن تخصيص جزء كبير منه للأمن السيبراني. كما أن هناك استراتيجية وُضعت منذ خمس سنوات لكنها لم تُطبّق حتى اليوم، ويجب تحديثها لتقوم على مبادئ الحوكمة والشفافية والأطر القانونية الواضحة لمعالجة تسريب البيانات”.
السرقة طاولت وزارتين والمطار والنافعة…ولا مساءلة
وبحسب قانون حماية البيانات ذات الطابع الشخصي الذي أقر في العام 2018، يمكن للمتضررين رفع دعوى ضد مجهول في حال خرق البيانات أو تسريبها، شرط أن يكون الضرر مثبتاً بشكل أساسي.
ويؤكد قطايا أن “لبنان مكشوف أمنياً بشكل كبير، ليس فقط منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية أو ظهور المسيّرات في الأجواء، بل منذ أن سلّم بياناته الكاملة إلى المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. تسليم البيانات لأي جهاز أمني يجب أن يتم وفق أسس واضحة، بطلب رسمي يحدّد الأسباب والمدة، ولا يجوز تقديمها بشكل كامل أو مفتوح”.
حتى الآن، لا تحقيقات جدّية أو تعامل حازماً مع التسريبات التي طاولت، في فترات غير بعيدة، مواقع وزارات الداخلية والمالية والمطار و”النافعة”. كما أن لوائح الشطب المنتشرة أونلاين تُمكّن أي مواطن من الاطلاع عليها من دون أي حماية، مما يجعل البعض يستفيد منها ويخزّنها ويستخدمها بطرق غير معروفة…وغالباً مؤذية ربما تصل إلى حد وقوع المسربة بياناتهم ضحايا جرائم جسدية ومالية وغيرها.
وفي سؤال عن آليات الحماية لموضوع تسريب البيانات، يشير قطايا “إلى أنها لا تقع على عاتق المواطنين، بل هي مسؤولية الدولة والحكومة والوزارات والمؤسسات والأجهزة الأمنية، التي عليها معالجة التسريبات ومحاسبة المتورطين فيها. فالمواطن لا يمكنه القيام بأي حماية طالما أن البيانات منشورة ومتاحة في الإنترنت. وينطبق الأمر أيضاً على بيانات المغتربين التي سُرّبت إلى مندوبي الانتخابات النيابية الماضية، إذ تتحمل الدولة كامل المسؤولية عنها، لا المواطن”.
وبذلك، وحتى اللحظة، الأمن الرقمي للبنانيين ما زال مهدَّداً ومكشوفاً وخطيراً، ما دامت الدولة تتجاهل وضع سياسة وطنية لحماية البيانات، في ظلّ غياب المحاسبة.

