اقتراع المغتربين …”العجلة” تتحول إلى تعطيل

الكاتب: إبراهيم الرز | المصدر: المدن
21 كانون الأول 2025

بقي مشروع القانون المعجّل المكرّر المتعلّق بتصويت اللبنانيين المغتربين لجميع النواب الـ128 من أماكن إقامتهم قيد التوقيف القسري بأمر من رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما يثير نقاشاً دستورياً وقانونياً داخل الأوساط البرلمانية، ولا سيما أن المشروع أُحيل من الحكومة إلى المجلس النيابي بصفة المعجّل المكرّر، كما حظى بقبول أكثر من 65 نائباً، ما أعاد طرح أسئلة قديمة–جديدة حول آليات العمل التشريعي وحدود الصلاحيات داخل المجلس.

ويتركّز النقاش على مدى انسجام هذا القرار مع أحكام الدستور اللبناني والنظام الداخلي لمجلس النواب، وخصوصاً لجهة صلاحيات رئيس المجلس في تنظيم جدول الأعمال، وحدود هذه الصلاحيات عندما يتعلّق الأمر بمشاريع أو اقتراحات قوانين تحمل صفة العجلة المكرّرة، والتي يفترض أن تُعامل بإجراءات استثنائية تمنع تعطيلها.

الإطار الدستوري للتشريع

يحدِّد الدستور اللبناني في المادة (44) “آليات خاصة للتعامل مع مشاريع القوانين ذات الصفة المستعجلة”. وتنص المادة 58 من الدستور على “إجراءات محددة للقوانين التي تعلن الحكومة صفة العجلة بشأنها، بما يهدف إلى منع إبقائها معلّقة من دون بتّ ضمن مهلة زمنية مفتوحة”.

ويشير الخبير الدستوري الدكتور أنطوان سعد في حديث لـ”المدن”، إلى أن “المشرّع الدستوري، من خلال هذه المادة، سعى إلى وضع قيود إجرائية تحول دون تعطيل القوانين العاجلة، من دون أن يتدخّل مباشرة في تفاصيل تنظيم جدول أعمال الجلسات”. وبحسب سعد، فإن “غياب النص الصريح لا يعني ترك المسألة لتقدير فردي مطلق، بل يفرض العودة إلى فلسفة النظام البرلماني القائمة على احترام إرادة الأكثرية النيابية”.

النظام الداخلي وحدود الصلاحيات

يحدد النظام الداخلي لمجلس النواب الإجراءات العملية للنقاش التشريعي. وتنص المادة 109 منه على آلية طرح اقتراحات القوانين المعجّلة المكرّرة على الهيئة العامة، بما يسمح بعرضها في أول جلسة عامة تلي تقديمها، حتى لو لم تكن مدرجة مسبقاً على جدول الأعمال. كما تنص المادة 110 على حق الحكومة أو النواب في طلب صفة العجلة المكرّرة، على أن يعود القرار النهائي للهيئة العامة بعد التصويت.

ويرى سعد أن “هاتين المادتين لا يمكن فصلهما عن طبيعة النظام البرلماني نفسه، إذ إن دور رئيس المجلس، وفق هذا المنطق، هو إدارة الجلسة وتأمين حسن سيرها، لا التحكّم بالمسار التشريعي أو استخدام الصلاحيات التنظيمية كأداة تعطيل”. ويضيف أن “تحويل هذه الصلاحيات إلى سلطة استنسابية منفصلة عن ميزان القوى داخل الهيئة العامة يُفرغ العمل البرلماني من مضمونه”.

ويرى بعض النواب أن عدم إدراج مشروع القانون المعجّل المكرّر يخالف روحية النظام الداخلي، باعتبار أن الهيئة العامة وحدها المخوّلة تقرير صفة العجلة من عدمها. في المقابل، يُطرح تفسير آخر يعتبر أن النظام الداخلي يمنح رئيس المجلس الحق في إدارة جدول الأعمال، من دون أن ينص صراحة على إلزامية إدراج كل اقتراح معجّل مكرّر فور تقديمه.

وفي هذا السياق، يلفت سعد إلى أن “أي تفسير للمادتين 109 و110 يسمح بتجميد الاقتراح المعجّل المكرّر أو تأجيله إلى أجل غير مسمّى يُفقد صفة العجلة معناها الفعلي، ويحوّلها إلى إجراء شكلي بلا مضمون. فالعجلة المكرّرة وُجدت لتجاوز التعطيل لا لإعادة إنتاجه بأدوات إجرائية”.

سوابق برلمانية وسياق أوسع

ويؤكد سعد أن “ما يحصل لا يقتصر على ملف اقتراع المغتربين، بل يندرج ضمن سياق أوسع من الممارسات البرلمانية التي شهد فيها المجلس، في مراحل مختلفة، عدم إدراج اقتراحات قوانين مستوفية لشروطها وعلى ملفات متعددة”. ويشير إلى أن “النظام البرلماني اللبناني، في فترات سابقة، قام على توازن عملي بين صلاحيات رئاسة المجلس وإرادة الكتل النيابية، حيث كان الرؤساء، يلتزمون عملياً بعرض الاقتراحات التي تحظى بتأييد نيابي وازن”.

كما يلفت إلى أن “بري نفسه استخدم، في أكثر من محطة، صلاحياته في إدراج مشاريع واقتراحات قوانين أو طرحها من خارج جدول الأعمال عندما ارتأى وجود ضرورة سياسية أو تشريعية، ما يدلّ على أن الإشكالية لا تتصل بغياب آلية قانونية، بل بكيفية استخدام الصلاحيات المتاحة”.

الأدوات المتاحة أمام النواب

وفي حال اعتُبر عدم الإدراج مخالفاً لروحية الدستور أو النظام الداخلي، يرى سعد أن “أمام النواب أدوات برلمانية واضحة، تبدأ بإثارة المسألة في مستهل الجلسة العامة، والاعتراض على جدول الأعمال، وطلب تعديل جدول الأعمال أو فرض مناقشة مسألة الإدراج داخل الهيئة العامة نفسها، باعتبارها المرجعية النهائية في تقرير المسار التشريعي”.

لكن يبقى أن هذه الأدوات لم تثبت فعاليتها في استحقاقات سابقة، وليس آخرها رفض الرئيس بري إبقاء جلسات مجلس النواب مفتوحة لانتخاب رئيس للجمهورية، ليسكن الفراغ قصر بعبدا عند انتهاء ولاية الرؤساء السابقين منذ ما بعد العام 2005. وهناك سوابق كثيرة تشهد تعطيل العمل الشريعي لأسباب سياسية، ليعيد المجلس فتح أبوابه عندما يتم إزالة العقبات بتوافق سياسي على الطريقة اللبنانية، التي تستطيع تطويع الدستور “غب الطلب” بحفلة “تبويس اللحى”. 

البعد المتصل بملف المغتربين

ولا يبدو أن تباشير مثل هذا الحل متوفرة حيال الجدل المتعلق بملف اقتراع المغتربين، الذي لطالما شكّل محور نقاش قانوني وانتخابي في لبنان، بين من يركّز على أبعاده القانونية ومن يقرأه من زاوية سياسية وانتخابية، وتحديداً مع اختلال الميزان الديموغرافي بين الطوائف اللبنانية. إلا أن المعنيين يؤكدون أن النقاش الحالي يتمحور، في جوهره، حول المسار الدستوري والإجرائي، أكثر مما يتناول مضمون القانون نفسه أو انعكاساته المباشرة.

ويخلص الجدل إلى أن مسألة عدم إدراج مشروع قانون اقتراع المغتربين المعجّل المكرّر يعكس إشكالية أوسع تتعلّق بتفسير النصوص الدستورية والنظام الداخلي لمجلس النواب، وبحدود الصلاحيات بين إدارة الجلسات واحترام إرادة الهيئة العامة، في ظل نصوص غير واضحة يمكن تأويلها وفق أكثر من قراءة أو اجتهاد بما يناسب الأجندة الخاصة لكل طرف سياسي، لينتهك الدستور مراراً وتكراراً كما تدل سوابق برلمانية تُستخدم اليوم كمرجعيات تفسير متعارضة ومتناقضة.

اقتراع المغتربين …”العجلة” تتحول إلى تعطيل

الكاتب: إبراهيم الرز | المصدر: المدن
21 كانون الأول 2025

بقي مشروع القانون المعجّل المكرّر المتعلّق بتصويت اللبنانيين المغتربين لجميع النواب الـ128 من أماكن إقامتهم قيد التوقيف القسري بأمر من رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما يثير نقاشاً دستورياً وقانونياً داخل الأوساط البرلمانية، ولا سيما أن المشروع أُحيل من الحكومة إلى المجلس النيابي بصفة المعجّل المكرّر، كما حظى بقبول أكثر من 65 نائباً، ما أعاد طرح أسئلة قديمة–جديدة حول آليات العمل التشريعي وحدود الصلاحيات داخل المجلس.

ويتركّز النقاش على مدى انسجام هذا القرار مع أحكام الدستور اللبناني والنظام الداخلي لمجلس النواب، وخصوصاً لجهة صلاحيات رئيس المجلس في تنظيم جدول الأعمال، وحدود هذه الصلاحيات عندما يتعلّق الأمر بمشاريع أو اقتراحات قوانين تحمل صفة العجلة المكرّرة، والتي يفترض أن تُعامل بإجراءات استثنائية تمنع تعطيلها.

الإطار الدستوري للتشريع

يحدِّد الدستور اللبناني في المادة (44) “آليات خاصة للتعامل مع مشاريع القوانين ذات الصفة المستعجلة”. وتنص المادة 58 من الدستور على “إجراءات محددة للقوانين التي تعلن الحكومة صفة العجلة بشأنها، بما يهدف إلى منع إبقائها معلّقة من دون بتّ ضمن مهلة زمنية مفتوحة”.

ويشير الخبير الدستوري الدكتور أنطوان سعد في حديث لـ”المدن”، إلى أن “المشرّع الدستوري، من خلال هذه المادة، سعى إلى وضع قيود إجرائية تحول دون تعطيل القوانين العاجلة، من دون أن يتدخّل مباشرة في تفاصيل تنظيم جدول أعمال الجلسات”. وبحسب سعد، فإن “غياب النص الصريح لا يعني ترك المسألة لتقدير فردي مطلق، بل يفرض العودة إلى فلسفة النظام البرلماني القائمة على احترام إرادة الأكثرية النيابية”.

النظام الداخلي وحدود الصلاحيات

يحدد النظام الداخلي لمجلس النواب الإجراءات العملية للنقاش التشريعي. وتنص المادة 109 منه على آلية طرح اقتراحات القوانين المعجّلة المكرّرة على الهيئة العامة، بما يسمح بعرضها في أول جلسة عامة تلي تقديمها، حتى لو لم تكن مدرجة مسبقاً على جدول الأعمال. كما تنص المادة 110 على حق الحكومة أو النواب في طلب صفة العجلة المكرّرة، على أن يعود القرار النهائي للهيئة العامة بعد التصويت.

ويرى سعد أن “هاتين المادتين لا يمكن فصلهما عن طبيعة النظام البرلماني نفسه، إذ إن دور رئيس المجلس، وفق هذا المنطق، هو إدارة الجلسة وتأمين حسن سيرها، لا التحكّم بالمسار التشريعي أو استخدام الصلاحيات التنظيمية كأداة تعطيل”. ويضيف أن “تحويل هذه الصلاحيات إلى سلطة استنسابية منفصلة عن ميزان القوى داخل الهيئة العامة يُفرغ العمل البرلماني من مضمونه”.

ويرى بعض النواب أن عدم إدراج مشروع القانون المعجّل المكرّر يخالف روحية النظام الداخلي، باعتبار أن الهيئة العامة وحدها المخوّلة تقرير صفة العجلة من عدمها. في المقابل، يُطرح تفسير آخر يعتبر أن النظام الداخلي يمنح رئيس المجلس الحق في إدارة جدول الأعمال، من دون أن ينص صراحة على إلزامية إدراج كل اقتراح معجّل مكرّر فور تقديمه.

وفي هذا السياق، يلفت سعد إلى أن “أي تفسير للمادتين 109 و110 يسمح بتجميد الاقتراح المعجّل المكرّر أو تأجيله إلى أجل غير مسمّى يُفقد صفة العجلة معناها الفعلي، ويحوّلها إلى إجراء شكلي بلا مضمون. فالعجلة المكرّرة وُجدت لتجاوز التعطيل لا لإعادة إنتاجه بأدوات إجرائية”.

سوابق برلمانية وسياق أوسع

ويؤكد سعد أن “ما يحصل لا يقتصر على ملف اقتراع المغتربين، بل يندرج ضمن سياق أوسع من الممارسات البرلمانية التي شهد فيها المجلس، في مراحل مختلفة، عدم إدراج اقتراحات قوانين مستوفية لشروطها وعلى ملفات متعددة”. ويشير إلى أن “النظام البرلماني اللبناني، في فترات سابقة، قام على توازن عملي بين صلاحيات رئاسة المجلس وإرادة الكتل النيابية، حيث كان الرؤساء، يلتزمون عملياً بعرض الاقتراحات التي تحظى بتأييد نيابي وازن”.

كما يلفت إلى أن “بري نفسه استخدم، في أكثر من محطة، صلاحياته في إدراج مشاريع واقتراحات قوانين أو طرحها من خارج جدول الأعمال عندما ارتأى وجود ضرورة سياسية أو تشريعية، ما يدلّ على أن الإشكالية لا تتصل بغياب آلية قانونية، بل بكيفية استخدام الصلاحيات المتاحة”.

الأدوات المتاحة أمام النواب

وفي حال اعتُبر عدم الإدراج مخالفاً لروحية الدستور أو النظام الداخلي، يرى سعد أن “أمام النواب أدوات برلمانية واضحة، تبدأ بإثارة المسألة في مستهل الجلسة العامة، والاعتراض على جدول الأعمال، وطلب تعديل جدول الأعمال أو فرض مناقشة مسألة الإدراج داخل الهيئة العامة نفسها، باعتبارها المرجعية النهائية في تقرير المسار التشريعي”.

لكن يبقى أن هذه الأدوات لم تثبت فعاليتها في استحقاقات سابقة، وليس آخرها رفض الرئيس بري إبقاء جلسات مجلس النواب مفتوحة لانتخاب رئيس للجمهورية، ليسكن الفراغ قصر بعبدا عند انتهاء ولاية الرؤساء السابقين منذ ما بعد العام 2005. وهناك سوابق كثيرة تشهد تعطيل العمل الشريعي لأسباب سياسية، ليعيد المجلس فتح أبوابه عندما يتم إزالة العقبات بتوافق سياسي على الطريقة اللبنانية، التي تستطيع تطويع الدستور “غب الطلب” بحفلة “تبويس اللحى”. 

البعد المتصل بملف المغتربين

ولا يبدو أن تباشير مثل هذا الحل متوفرة حيال الجدل المتعلق بملف اقتراع المغتربين، الذي لطالما شكّل محور نقاش قانوني وانتخابي في لبنان، بين من يركّز على أبعاده القانونية ومن يقرأه من زاوية سياسية وانتخابية، وتحديداً مع اختلال الميزان الديموغرافي بين الطوائف اللبنانية. إلا أن المعنيين يؤكدون أن النقاش الحالي يتمحور، في جوهره، حول المسار الدستوري والإجرائي، أكثر مما يتناول مضمون القانون نفسه أو انعكاساته المباشرة.

ويخلص الجدل إلى أن مسألة عدم إدراج مشروع قانون اقتراع المغتربين المعجّل المكرّر يعكس إشكالية أوسع تتعلّق بتفسير النصوص الدستورية والنظام الداخلي لمجلس النواب، وبحدود الصلاحيات بين إدارة الجلسات واحترام إرادة الهيئة العامة، في ظل نصوص غير واضحة يمكن تأويلها وفق أكثر من قراءة أو اجتهاد بما يناسب الأجندة الخاصة لكل طرف سياسي، لينتهك الدستور مراراً وتكراراً كما تدل سوابق برلمانية تُستخدم اليوم كمرجعيات تفسير متعارضة ومتناقضة.

مزيد من الأخبار

مزيد من الأخبار