
الضاحية بعد الاستهداف: كابوس الحرب يعود والبعض “ضبّوا الشنط”
هي المرة الخامسة منذ وقف إطلاق النار التي تُستهدف فيها الضاحية الجنوبية لبيروت، والثانية التي تقع دون أي إنذار مسبق، ما يشي بدلالات بالغة الخطورة حول هشاشة الوضع بين لبنان والعدو الإسرائيلي، خصوصًا في ظل التطورات التي شهدتها الأيام الأخيرة.
شارع الشيخ راغب حرب، المقابل لمجمّع السيدة زينب في حارة حريك، شارع سكني مكتظ يضجّ بالحركة والمحال التجارية والمارة. وعلى رغم أنّ يوم الأحد يكون عادة أقل ازدحامًا من أيام الأسبوع، فإن السكان اعتادوا سماع صوت المسيّرات، إلا أن أصواتها غابت اليوم، وحضر صوت إطلاق الصواريخ.
وبين الشك والإنكار، راحت التخمينات تتنقل بين الناس: هل هي غارة؟ أم مفرقعات كما حدث بالأمس؟ أم انفجار إطار؟ لكن سرعان ما أتت الصور لتؤكد: غارة إسرائيلية مباشرة من دون إنذار، أصابت مبنى سكنيًا وأحدثت دمارًا واسعًا في المكان.
الدقائق الأولى بعد الانفجار: ذهول وصراخ وشارع يمتلئ بالناس
كان الشارع قبل الغارة هادئًا نسبيًا. حركة مارة عادية ومحال مفتوحة وسكان في منازلهم. إلا أنّ الساعة الثانية والأربعين دقيقة شكّلت نقطة التحوّل. سمع سكان الضاحية ما يسمّونه بـ”شخرة” الصاروخ، فهرع الناس من منازلهم، وفتحوا هواتفهم لمعرفة مكان الاستهداف. وخلال ربع ساعة فقط، كان الشارع قد امتلأ بالمواطنين.
وصلت سيارة جمعية الرسالة للإسعاف الصحي أولًا، تلتها سيارات إسعاف أخرى. ارتفعت الصرخات، وتسابق الناس نحو المكان. وفي هذه اللحظة، وضع أمن حزب الله الحواجز الحديدية، ومنع الاقتراب من موقع الغارة، بالتزامن مع وصول الصحافيين، والصراع المعتاد حول التصوير بين الإعلاميين والأمن، إضافة إلى إشكالات مع المدنيين الذين رفعوا هواتفهم. ومع وصول مسؤولي الملف الإعلامي في الحزب، تمّ تنظيم المشهد وضبطه.
استهداف الطبطبائي… واشتداد الفوضى
انتشر سريعًا خبر استهداف هيثم الطبطبائي، الذي وصفه إعلام العدو بمسؤول أركان حزب الله. ومع تضاعف عدد الناس، أطلق الأمن الرصاص لتفريق الحشود. صعد المسعفون إلى المبنى المستهدف بستة صواريخ دقيقة، وانتشلوا جثتَين في المرحلة الأولى وعددًا من الجرحى من مختلف الأعمار.
غادر سكان المبنى على عجل، بعضهم بالبكاء والخوف من عودة كابوس التهجير. ومع انتهاء عمليات الإسعاف، بلغ عدد الشهداء خمسة، إضافة إلى عدد كبير من الجرحى من داخل المبنى والمحيط والشارع المقابل.
وصل مواطنون للاطمئنان إلى أقاربهم الذين لم يجيبوا على هواتفهم. البعض ترك مقتنياته الأساسية وغادر المنطقة. حجم الدمار بدا هائلًا، فستة صواريخ دقيقة كانت كفيلة بتهشيم واجهات وبيوت ومحال.
شهادات من الشارع: بين غضب وتمسّك ويأس وتحذير
في الشارع روايات كثيرة، تعكس مزاجًا متناقضًا:
مواطن أربعيني قال لـ”المدن“:”أين الدولة التي قالت إنها ستحمينا؟ نُقتل جنوبًا وبقاعًا وفي الضاحية، وكأننا أرقام منسية. ما نريده هو المقاومة فقط، فهي القادرة على حمايتنا.”
إمرأة في أواخر الثلاثينات، تحدّثت باللهجة العامية، قالت:”ليه الشيعة دايمًا ما حدا بيسأل عنّن؟ بدّن يسحبوا سلاحنا؟ شايفين شو عم يصير فينا! هيدا السلاح بيحمينا والمقاومة بتقرر، مش حدا تاني.”
مواطن خمسيني عبّر عن تعب طويل:همللنا هذا الحال… قتل وتهجير ودمار وخوف. بدنا ننام مرتاحين، بدنا نتطمن على ولادنا، مش كل يوم قلق وحرب.”
آخرون همسوا بانتقادات حول وجود مسؤولين أمنيين كبار في مناطق مكتظة بالسكان، معتبرين أن على القيادات إدارة العمليات من أماكن غير مدنية.
حضور سياسي وخطابات عالية النبرة
حضر مسؤولو حركة أمل وحزب الله، بينهم النائب علي عمار ومحمود قماطي وطلال حاطوم. الخطاب كان موحدًا ضرورة لجم العدوان، واتخاذ خطوات جدية، والتنسيق مع الدولة والجيش، ودعوة المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل. لكن خطاب قماطي كان الأكثر حدّة، إذ لم ينفِ إمكانية الرد، وترك الأمور مفتوحة، مؤكدًا أن المقاومة ستتصرّف كما تراه مناسبًا طالما أن إسرائيل لا تلتزم بالاتفاق.
جولة في موقع الاستهداف
بعد السماح للجولة الميدانية، بدا واضحًا أن الغارة طالت عدة طوابق في المبنى ، وغطّى الركام والزجاج أجزاء كبيرة من الشارع، فيما تضررت المحال التجارية والآليات، والغبار انتشر بشكل كثيف.
الغارة بدت أعنف من تلك التي استهدفت صالح العاروري قبل عامين. التأثير بدا أوسع وأكثر تدميرًا.
المسيّرات… شاهدة فوق الجراح
رغم الدمار، كانت المسيّرات الإسرائيلية تحلّق على علو منخفض، تُرى بالعين المجرّدة، وتُصوَّر بهواتف المواطنين. بعض الناس توجه نحو الجيش قائلاً:
“ارفع سلاحك يا وطن وقوّص عليها!”
الاشتباك اللفظي بين الناس والجيش لم يكن قليلًا. بعضهم رأى المؤسسة العسكرية عاجزة عن حمايتهم، وبعضهم يعتقد أنها تضغط لحصر السلاح بيد الدولة. كما حصلت خلافات بسيطة بين الجيش وأمن الحزب، تمت معالجتها سريعًا.
ولاحظ كثيرون أن تعامل الجيش اليوم اختلف عمّا كان عليه قبل الحرب الواسعة وفي بدايتها، كأن شيئًا تبدّل… لكن ليس باتجاه ترميم الثقة، بل باتجاه سؤال أكبر:
“من المسؤول عن أمن الناس؟“
وجوه شاحبة وذكريات ثقيلة: هل يتكرر شريط الحرب؟
كثيرة هي الوجوه التي بدت منهكة. ذكريات الحرب عادت دفعة واحدة، وبعضهم بدأ يقول:
“جهّزوا الشنَط.”
الصحافيون عادوا يسألون بعضهم: “منرجع عالجبهة؟“
كان المشهد يعيد أحداث أيلول، من 17 إلى 23 منه، حين ضربت الضاحية ثم اندلعت حرب شاملة. كانت التحليلات حينها تقول إن الحرب لن تتوسع… لكنها توسعت.
اليوم يبدو الشريط نفسه يعاد. الكابوس ذاته يلوح مجددًا.
الناس لا يريدون حربًا جديدة، ولا استهدافات متكررة، ولا حياة تحت عيون المسيّرات التي يستيقظون على صوتها وينامون عليه.
فهل نحن أمام كابوس جديد؟
الوقائع تقول نعم…
القلوب تقول لا…
لأن الناس تحمّلوا أكثر مما يحتمله بشر.
