
خاص- صفعة تليها أخرى والدولة على جبهة الردود
تتوالى الصدمات الاجتماعية حتى بات لا شيء يصدم الشعب اللبناني الذي أصبح ينتظر ما الأسوأ الذي قد تخبئه الأيام المقبلة. وكما اعتاد اللبنانيون على العيش على وقع الازمات فيجدون في كل مرة السبل المناسبة لتقبّل الوضع القائم كذلك اعتاد المسؤولون على “ترويض” عقول وقلوب الشعب على التأقلم أو بالحري على التخدّر. لا تبدو الحلول مندرجةً ضمن مهام المجلسين النيابي والوزاري، على الأقل الجذرية منها، حيث أقصى ما يخرج عنهما هو الاجتماعات والجلسات الطارئة تليها سلسلةٌ من البيانات ومجموعةٌ من الإجراءات المؤقتة للتخفيف من وطأة الازمة والرفض الشعبي.
ولم يعد هذا الواقع بحاجةٍ الى أي اثباتاتٍ إضافية أو حجج مقنعة، الا أن حادثة تعرض أطفالٍ للعنف اللفظي والجسدي في إحدى دور الحضانة في جديدة المتن زادت من هذا الواقع فقاعةً ومن الدرك الذي وصل اليه الوضع الاجتماعي المهمل تنبيهًا. لقد أكدت هذه الواقعة مرةً جديدةً المؤكد: الدولة اللبنانية لا سيما الوزارات غائبةٌ عن متابعة الوضع الاجتماعي بشكل حثيث استدراكًا لحصول أزمات اجتماعية، بل يقتصر دورها على تلقي “الصفعات”، واحدة تلو الأخرى، كل مرة أقوى وأخطر، فتنهمك حينها في إيجاد الحلول بالاستنكار والتحرك الأمني والاطلالات الإعلامية المطمئنة.
الا ان هذا الامر لا يثير العجب، فكما أن موازنة العام 2022 تصدر في العام التالي كذلك تيقظ المسؤولين وضميرهم الإنساني: فهو لا يحضر الا متأخرًا ولا يظهر الا مستغربًا ومستنكرًا. اما ما أثار العجب في قضية تعنيف الأطفال هذه، هو ردة فعل وزير الصحة فراس الأبيض الذي أعرب عن صدمته من “المعلمة التي صورت الفيديو أكثر من التي عنفت الاطفال” في احدى المقابلات الإعلامية. محاولةٌ مبطنةٌ لجعل الرأي العام يتعاطف مع القضية بدلًا من استدراك مدى تراخي رقابة وزارة الصحة على الأماكن التي يتم فيها بناء المجتمع. محاولةٌ ناجحةٌ لإخفاء التقصير تحت ستر التعاطف الإنساني للوزير المصدوم والمنهمك في إيجاد الحلول العاجلة بعد استدراكه ضرورة “القيام بدوريات مفاجئة وتدريب العاملين في دور الحضانة”.
ولقد أصبح من الملح جدًا القاء الضوء والتوعية على ما لم يقم الاعلام اللبناني ولا المؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي بتداوله الا وهو الفرق بين الفعل ورد الفعل. في الواقع، تقوم الإدارات الجيدة على الفعل فيما تترك للرأي العام ردود الفعل. إن الحكومات الناجحة التي تعمل على سلامة المجتمع بكل أشكالها تنهمك في دراسة المجتمع وظواهره وما يعاني منه قبل تفشي الظواهر الاجتماعية فتسرع في إيجاد الحلول قبل وقوع الانفجار الاجتماعي حرصًا منها على سلامة المجتمع واستدامته. فأين الدراسات التي تجريها الدولة اللبنانية بشكل دوري لرصد المشاكل الاجتماعية؟ وإن وجدت الدراسات أو، بل الاحرى أوجدتها المنظمات الأممية وغير الحكومية، أين هي الحلول التي تسعى الدولة اللبنانية الى تحقيقها بعيدًا عن الاستنكار فحسب؟ وليست هي المرة الأولى التي تظهر معالم هذه المشكلة في المجتمع اللبناني. فملف حقوق المرأة على سبيل المثال خير دليلٍ على أن الدولة لا تولي لهذا الموضوع الأهمية بالأساس حتى تقوم بدراسته مما أدى الى اطلاق حملة “دايمًا_ وقتها” من قبل منظمة “أبعاد” لتذكير هذه الأخيرة بمسؤولياتها الاجتماعية. ومن حقوق المرأة الى المساجين… قائمة الأمثلة تطول على قدر ما يطول الإهمال فتصبح الحقيقة جليةً أكثر: الدولة اللبنانية ستبقي نفسها في مرحلة ردود الفعل، ممثلةً نفسها ضحية الازمات الاقتصادية والمعيشية الضاغطة، فتنجح في ايهام الرأي العام بأنها تلعب دور “المخلص” الذي يستطيع اتخاذ تدابير جزائية صارمة بحق المخالفين.
بالحقيقة، الصدمة الاكبر هي تلك التي يعاني منها الآن الاطفال وأهاليهم لرؤية فيديوهات أبنائهم تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي كأي منتج اعلامي قابل للتعليق ليتبيّن أن الازمة لم تعد فقط على صعيد الدولة، بل هي تطال المجتمع اللبناني بشكل عام وطريقة تفاعله مع الازمات الاجتماعية. فهل لأننا أصبحنا نعيش في عصر التواصل الاجتماعي أصبحت كل واقعة بالضرورة مادة تداول على وسائل التواصل الاجتماعي؟ وهل يدرك الافراد فعلًا ما يتم تداوله ونشره ؟ فكما انتشرت صورة الفتاة التي القت بنفسها عن جسر الدورة بهدف الانتحار على جميع المنصات الاجتماعية دون الحرص على كرامة هذه الأخيرة وخصوصيتها كذلك تداول الافراد لا سيما الذين يدعون “مؤثرون اجتماعيون” فيديوهات مختلفة عن أعمال العنف الممارسة على هؤلاء الاطفال، معتبرين أن هذه الحادثة جديرةٌ بالتعليق والتداول والنقد. هذا الفعل غير قابل للتعليق، غير معد للتداول والتسخيف. واذا كان الهدف من نشر الفيديوهات هو التوعية فالتوعية لا تكون بزيادة الجرح، بل بتصويب المسار من خلال الاجراءات السريعة بعيدا عن تفاهات الصدمة التي عاشها الوزير أو المشاعر الاليمة التي انتابت المؤثرين.
فيما تزداد الجروح يقل الوعي والتعاطف الإنساني الحقيقي، وفي الكواليس، ثمة من يستمر في أداء مهامه، في منصبه، على كرسيّه، غير عابئٍ بما وصلت اليه الإنسانية اليوم وما ستؤول اليه هذه الأخيرة غدًا.
