
نسخة انتخابية لـ”الأيادي السود”
في تسعينات القرن الماضي برزت طائفة من المعارضين ومن الناشطين السياسيين الذين امتهنوا مهاجمةرفيق الحريري والحريرية السياسية، على أنه حوت المال الذي يريد تدمير لبنان ويحوّل اقتصاده نحو الرأسمالية المتوحشة، متغاضين أو حتى مدافعين عن احتلال حافظ الأسد للبنان، والذي بدوره أعطى “حزب الله” احتكار المقاومة ضد العدو الإسرائيلي وحوّل لبنان إلى نسخة “أورولية” من حكم الأخ الأكبر.
تلك الطائفة من “القومجيين” ومعهم جماعة من الناصرية، امتهنوا الشتم عبر منبر مجلس النواب، وعلى مر أكثر من خمسة عشر سنة، وسخروا قدراتهم لتهذيب أي طرف يعارض “الإجماع” اللبناني تحت الوصاية السورية، ووصل بهم الأمر لنشر كتب من ضمنها “ملحمة” النائب السابق نجاح واكيم “الأيادي السود” الذي “يوثق” فساد رفيق الحريري بدون ذكر دور الوصاية السورية، التي كما حال سلاح “حزب الله” حالياً، عملت على تأمين الحماية والمشورة لهذا النظام الزبائني.
الانتخابات النيابة الحالية كما تبدو حتى الآن، هي إعادة تفريخ لأيتام تلك الطائفة من الممانعين، ولكن تحت عباءة قوى التغيير التي خرجت من ثورة 17 تشرين، فمنهم من زرعوا ضمن صفوف الثورة لتشتيت جهود المجموعات التغييرية ومنعهم من بلورة مشروع سياسي واضح سيادي يواجه الفساد ومشروع “حزب الله”؛ في حين برز قسم آخر ضمنهم يدعي “النبوة” السياسية ويجمع حوله اتباع من شبان متحمسين وصادقين، شكلت بمجملها cult أو طائفة تروج لنسخة منقحة من كتاب الأيادي السود.
من ضمن تلك الفرق، مجموعة صغيرة نسبياً من حيث العضوية تبشر برؤية “الرجل الحكيم”، الذي قرر بعد تبوؤه وزارتين في صفوف التيار الوطني الحر، أن يرى النور وينضم إلى صفوف “الرعاع” ويرفع سيف الإصلاح بوجه الطغمة الحاكمة وبوجه الثورة التي وصمها “نبي الثورة” بالسخيفة وعبارة عن حفلة من الموسيقى والأراغيل.
ارتأت تلك الفرقة بان تقدم 69 مرشحاً ضمن الانتخابات النيابية القادمة في خطوة تشكل خدمة قيمة للسلطة السياسية وتشتت أصوات المعارضة، وتروج لصورة الانقسام الذي يدفع بالعديد من الناخبين لمقاطعة الاقتراع برمته.
تطرح تلك “الطائفة” جملة من الحلول الاقتصادية والسياسية الإصلاحية، تبدو للعديدين كأنها صائبة وصادقة وتستند على مقاربة وطنية علمانية، لكن في صميمها تطمر السيادة كمدخل إلى الإصلاح، معتبرة بأن “حزب الله” وسلاحه الإيراني المذهبي “رصيد كبير للبنان ولا يجوز التفريط بها ولا المساومة عليها، والنقاش فيها يجب أن يتمحور منذ اليوم الأول حول انتقالها، مع الحفاظ على فعاليتها، من مقاومة “طائفة” إلى منظومة وطنية”.
النبرة الاعتذارية والتبريرية للسلاح الغير شرعي تنتمي إلى الحقبة الغابرة عندما دفعت سذاجة اللبنانيين للرهان على وطنية “حزب الله”، وبأن هذا السلاح لن يدار إلى الداخل، بل سيستمر في حماية لبنان من إسرائيل، رهان ما لبث أن أثبت فشله في شوارع بيروت خلال أحداث 7 أيار 2008.
المسألة لا تنتهي مع “المرشد الأعلى” لتلك المجموعة بل تمتد الى من يوصف بتلميذه النجيب – المتقمص لنبرة وأسلوب زياد الرحباني- والذي يروج قراءة تاريخية منتقصة للانهيار الاقتصادي الحالي، مركزاً “حصراً” على دور الحريرية السياسية وأمراء الحرب والطوائف خلال سنوات 1990-2015 مع تقديم براءة ذمة للنظام السوري ووريثه الإيراني “حزب الله”.
من خلال وثائقي “التاريخ الذي لم يُرو” الذي بث عبر إحدى قنوات التلفزيونية اللبنانية يقدم هذا المرشح الانتخابات النيابية قراءة غير صادقة لسنوات الوصاية السورية ويلوم رفيق الحريري على كل مصائب البلد، فيقوم بالإيحاء أحياناً عبر استعمال الصورة والأرشيف، ليقول بأن السقوط الحالي الاقتصادي والسياسي هو فقط إعادة للسيناريو الذي سمح بدخول رفيق الحريري الى المعترك السياسي وعلى أنقاض حكومة عمر كرامي سنة 1992.
وصلت به الأمور خلال إحدى المقابلات، بأن ينظر في عيون أحد أبناء شهداء ثورة الأرز، محمد شطح، نافياً دور “حزب الله” في اغتيال والده، وبطريقة ملتوية يصرح بأنه لا يستطيع أن يجزم قيامهم بمجموعة من الاغتيالات على رموز سيادية، طارحاً فرضية مشاركة الإسرائيلي في تلك الجرائم، متناسياً قرارات المحكمة الخاصة بلبنان التي أدانت مسؤولين بـ”حزب الله”.
إذا اختار المرء لسبب من الأسباب أن يتناسى تلك المواضيع الأخلاقية الأساسية، فقراءة الطروحات الاقتصادية والمقاربات السياسية لتلك الجماعة تؤدي إلى هذا الاستنتاج الشبيه بسقطتهم الأخلاقية. في حين تبدو خطتهم الاقتصادية أنها تقدم شيئاً حديثاً بينما في الواقع، تلك الطروحات هي نفسها ما تتبناه مجموعات التغيير وحتى بعض أحزاب السلطة.
المطالبة بالضريبة التصاعدية أو توزيع الخسائر أو استعمال الضرائب لتمويل النظام الصحي ليس بعمل ثوري جديد، بل هو قوام أي عمل سياسي بديهي. التركيز على دور الدولة المركزي في اتخاذ القرارات الاقتصادية والتركيز على أهمية المجتمع فوق الفرد لا يختلف عن حكم أمراء الحرب فوق المواطنين اللبنانيين، ولربما الأخطر هو ادعائهم بأنهم كمجموعة نخبوية نظيفة الكف قادرة على اتخاذ القرارات نيابة عن الشعب اللبناني، وهذا الادعاء يتحوّل إلى ركيزة لمشروعهم الانتخابي، بحيث سيدعي هؤلاء بتمثيلهم لنسبة مئوية تسمح لهم بإعلان مجلس وطني انتقالي تحت ذريعة هذا التمثيل الوهمي الذي حصلوا عليه في صناديق الاقتراع.
الغرور واحتكار الحقيقة هو ثقافة اعتاد عليها اللبنانيون من أمراء طوائفهم الذين ادعوا حماية مصالح جماعاتهم كما هو حال مدعي الإصلاح في زمن أصبح من الصعب تمرير الدجل على أنه ثورة حقيقية.