
خاص- الحرب الأهلية… لم أكن هناك لكنني أحمل آثارها كل يوم!
لم أكن هناك حين انفجرت الحرب الأهلية في لبنان عام ١٩٧٥. لم أركض نحو ملجأ، ولم أختبئ من قنّاصة، ولم أمرّ على حاجز يسألني عن طائفتي ليقرّر إن كنت أستحق الحياة. لكنني، مثل كثيرين من أبناء جيلي، وُلدت في ركامها، وربيت في ظلّها، ولا أزال أتنفّس آثارها حتى اللحظة.
أنا شاب لبناني، لم أعِش الحرب، لكنني عشت نتائجها. رأيت الدولة الغائبة، والطائفية المترسّخة، والسلاح الذي لا يخضع لقانون، والعدالة التي لا تأتي.
كبرت في بلد يحكمه أمراء الحرب بعد أن خلعوا البزّات الميدانية وارتدوا ربطات العنق.
قالوا لنا إن الحرب انتهت. لكن أي نهاية هذه التي تُبقينا محاصرين بالخوف والانقسام؟ أي سلامٍ هذا الذي لا عدالة فيه، ولا ذاكرة مشتركة، ولا حتى اعتراف بما حصل؟
المدارس لم تعلّمني ما جرى. الكتب المدرسية توقّفت عند أبواب الحرب، كأنهم يخافون من الحقيقة. لكنّي عرفت. سمعت من أهلي، من كبار السن، من الصور المحروقة، ومن البيوت التي لم تُرمّم بعد. عرفت أن الحرب لم تكن مجرّد “اقتتال داخلي”، بل مجزرة دامت ١٥ سنة، شارك فيها الداخل والخارج، وقُتل فيها الأبرياء باسم الطائفة، والمصالح، والخوف.
لكن ما يُرعبني اليوم، أكثر من ذاكرة الحرب، هو حاضر يشبهها. نفس الخطاب، نفس التجييش، نفس الخطوط الحمراء التي تُرسم بين الناس. نحن اليوم على شفير الهاوية، ويبدو أن كثيرين مستعدّون للقفز. يلوّحون بالحرب كأنها حنين، لا كارثة. يتباهون بالماضي وكأن الدم كان بطولة.
أنا أرفض هذا كلّه. أرفض أن يُقال لنا إننا سنعود إلى الحرب إذا لم نخضع. أرفض أن يُهدّدونا بالفوضى كي نقبل بالذلّ. أرفض أن تُختصر حياتي وهويتي بخندق أو سلاح أو طائفة.
لسنا ضحايا قدرٍ تاريخي. الحرب ليست قدرًا. الحرب خيار. وأنا أختار أن أرفضها.
في ذكرى الحرب الأهلية، لا أطلب مجرّد تذكّرها… بل أطالب بأن نواجهها. أن نفضح من أشعلها، ومن يستثمر في احتمال عودتها. أن نُربّي جيلاً لا يُجنَّد في الميليشيات، بل يُسائل الزعماء. أن نبني ذاكرة وطنية موحّدة، لا مزيّفة.
لا أريد أن أرى بلادي تُحترق مجددًا كي يقول البعض “لقد كنّا على حق”.
لا أريد أن أدفن أصدقائي في شوارع بلدي.
لا أريد أن أعيش الحرب من جديد… ولن أقبل أن أرثها.